استمع إلى الملخص
- مؤشر الفقر متعدد الأبعاد: يمتد الفقر في العراق إلى نقص الخدمات الأساسية مثل التعليم والصحة، مع معدل شدة حرمان يبلغ 37.9%، مما يتطلب خططًا فعالة لتحسين الخدمات والتصدي للفساد.
- الاستراتيجيات الحكومية والتحديات: تعتمد الحكومة على الصندوق الاجتماعي للتنمية والرعاية الاجتماعية والحصة التموينية، لكنها تواجه مشكلات الفساد وضعف الفاعلية، مما يستدعي تحسين الصناعة والزراعة وإنهاء الصراعات الداخلية.
العراق في مقدمة البلدان المنتجة والمصدرة للنفط في العالم. لديه إمكانات مالية هائلة. لكنه يعاني الفقر وما يترتب عليه من مشكلات اجتماعية خطيرة. لم يعد مستوى الدخل الفردي رغم أهميته كافياً للتعرف على هذه الأزمة. بل أصبح من الضروري تحليل مدى حرمان الأفراد من المتطلبات الأساسية للحياة اليومية. عندئذ يمكن التوصل إلى معدل الفقر المتعدد الأبعاد ووضع السياسات اللازمة لمعالجته.
وتعتبر نسبة الفقراء إلى عدد السكان مؤشراً مهماً لقياس الحالة الاجتماعية في بلد ما. فكلما زادت هذه النسبة تعقدت الأزمة وصعبت معالجتها. انتقلت هذه النسبة في العراق من 22% في عام 2000 إلى 23.4% في 2023. ومن المعلوم أن عدد السكان ارتفع خلال هذه الفترة من 24 مليون نسمة إلى 43 مليون نسمة. وبعملية حسابية بسيطة نستنتج أن عدد الفقراء ازداد من خمسة ملايين شخص إلى عشرة ملايين شخص. يدل هذا الوضع على الانتقال من حالة سيئة إلى حالة أسوأ، في حين كان من المفروض أن تتراجع النسبة ويهبط عدد الفقراء نظراً إلى تغير المعطيات الاقتصادية.
يمثل عام 2000 مرور عشر سنوات على المقاطعة الدولية الشاملة والفاعلة المفروضة على العراق من قبل مجلس الأمن بسبب احتلال الكويت. أنهكت تلك المقاطعة المواطنين وأثرت بشدة على جميع الأنشطة الاقتصادية. ارتفعت معدلات البطالة بعد أن كان العراق من الدول المستوردة للعمالة، فزاد الفقر. كما كانت إيرادات النفط في تلك السنة 18150 مليون دولار. وكان العراق أكبر بلد عربي من حيث مديونيته الخارجية الناجمة عن الحرب ضد إيران وتعويضات احتلال الكويت.
في الوقت الحاضر لم تعد المقاطعة الدولية مطبقة. كما بلغت إيرادات النفط في الميزانية العامة حوالي 90 مليار دولار، أي خمسة أضعاف إيرادات عام 2000. وهبطت المديونية الخارجية بفعل الإعفاءات والسداد.
السبب الأساس في تزايد الفقر في العراق هو تصاعد معدل البطالة. أما الأسباب التي أدت إلى هذا التصاعد فهي مختلفة اختلافاً كبيراً. في السابق كانت البطالة ناجمة عن تباطؤ الأنشطة الاقتصادية. في حين يعود السبب الأساس للبطالة الحالية إلى الفساد المالي والإداري المستشري، لكن هذا الاستنتاج لا يعني أن الفساد لم يكن موجوداً في السابق، ولا يعني أن الأنشطة الاقتصادية مزدهرة حالياً.
ومن الناحية الإدارية نلحظ أن أعلى نسبة للفقر في العراق مسجلة في محافظة المثنى. حيث يمثل الفقراء 52% من سكانها. تليها الديوانية (48%) ثم ميسان (45%). في حين تنخفض النسبة إلى 7% في أربيل و5% في السليمانية. علماً بأن دراسة لمنظمة الأسكوا التابعة للأمم المتحدة لعام 2018 تجد معدلات أعلى للفقر في هاتين المحافظتين الشماليتين. وهنالك أيضاً اختلاف آخر في نسبة الفقراء بحسب المناطق في كل محافظة. ففي بغداد بلغت النسبة 2% في الأعظمية و22% في التاجي و50% في المشاهدة. لكنّ أزمة الفقر لا تقتصر على علاقة الفقراء بعدد السكان، بل تشمل أيضاً مدى حرمان الأشخاص من متطلبات الحياة اليومية.
شدة الحرمان
بحسب التصنيفات الدولية تتضمن شدة الحرمان ثلاثة ميادين (أبعاد) ترتبط بالأسرة.البعد الأول التعليم. وينقسم إلى قسمين: تعليم الأطفال وتعليم الكبار. والبعد الثاني الصحة. ويتكون من قسمين أيضاً هما التغذية ووفيات الأطفال. أما البعد الثالث فيتعلق بالحالة المعيشية. تحتوي هذه الحالة على ستة أقسام: الكهرباء والماء الصالح للشرب وحالة السكن ونوع الطاقة المستخدمة في الطبخ والمرافق الصحية وملكية الأصول كالسيارات والهواتف. وفي ما يلي توصيف سريع لبعض هذه الأقسام في العراق.
1- تعليم الأطفال: بحسب اليونيسيف 3.2 ملايين طفل عراقي في سن الدراسة خارج المدارس. في بعض المحافظات كديالى وصلاح الدين غالبية الأطفال غير متمدرسة. ويعود السبب إلى الضائقة المالية لأسرهم التي لا تستطيع صرف الأموال لتعليمهم وكذلك إلى نقص البنية التحتية كالأبنية المدرسية. أصبح الأطفال يعملون ولا يدرسون. في حين أن القوانين تمنع ذلك.
2- التغذية: العراق من بين الدول التي تبذر الطعام بسبب العادات والتقاليد، لكنه يعاني أيضاً نقصاً في التغذية. الجوع معروف رغم تراجعه في الآونة الأخيرة، فحسب مؤشر الجوع العالمي بلغت نسبة الجياع في العراق 14.9% من عدد السكان في 2024. ومن هذه الزاوية يتعادل العراق مع غانا وموريتانيا ويتجاوز مصر والمغرب.
3- الكهرباء: العراق من كبار البلدان النفطية من حيث الاحتياطي والإنتاج والتصدير. هو خامس بلد مصدر للخام في العالم. ولكن يعاني المواطنون نقصاً شديداً في الخدمات الكهربائية، علماً بأن أسعار الطاقة الكهربائية منخفضة مقارنة ببقية الدول. سعر الكيلوواط/ساعة في العراق 0.01 دولار مقابل متوسط عالمي قدره 0.15 دولار.
لكن هذا السعر يتعلق بالخدمات الكهربائية الحكومية التي تشهد انقطاعاً يومياً ولفترات طويلة، لذلك يضطر العراقيون إلى شراء الطاقة الكهربائية من القطاع الخاص بأسعار باهظة ليست في متناول الجميع خاصة أصحاب الدخول المنخفضة.
مؤشر الفقر
لا يقتصر الفقر على مستوى الدخل المنخفض بل يمتد إلى عدم الحصول على الخدمات الأساسية كما هو واضح من الفقرة السابقة. ويطلق على عملية الربط بين نسبة الفقراء وشدة الحرمان تسمية مؤشر الفقر متعدد الأبعاد. وهو ضروري لوضع السياسات اللازمة للمعالجة.
وبحسب تقارير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي لكل بعد من الأبعاد الثلاثة المذكورة أعلاه 33.3%، أي إن لكل قسم في البعدين الأول والثاني 16.6% ولكل قسم في البعد الثالث 5.5%. فإذا كان الطفل غير منخرط في مدرسة تضاف إلى الأسرة نسبة حرمان قدرها 16.6%. وإذا كان طبخ الطعام عن طريق الخشب مثلاً تضاف إلى الأسرة نسبة حرمان قدرها 5.5%. وهكذا نصل إلى المعدل العام لشدة الحرمان.
والملاحظ أن مؤشر الفقر المتعدد الأبعاد هو حاصل ضرب نسبة الفقر إلى عدد السكان بالمعدل العام لشدة الحرمان. وبحسب البرنامج المذكور فإن نسبة الفقر في العراق 8.6% من عدد السكان. ومعدل شدة الحرمان 37.9%. وبذلك يصبح مؤشر الفقر المتعدد الأبعاد 0.033% (0.086 × 0.379).. وهكذا بُنيت الاستنتاجات وتم تصنيف العراق ضمن مجموعة من البلدان تضم بوليفيا والمغرب. لكن هذا الحساب يستند إلى معطيات قديمة تتعلق بنسبة الفقراء إلى عدد السكان. في الوقت الحاضر وبحسب الإحصاءات الحكومية تبلغ هذه النسبة 23.4% كما رأينا.
وعلى هذا الأساس يصبح المؤشر 0.089% (0.234 × 0.379). عندئذ يقع العراق بين الدول التي تعاني بشدةٍ الفقرَ. يتعين إذن وضع الخطط التي تتناسب مع هذا المعدل.
الخطة الحكومية
تعتمد الحكومة في التصدي للفقر على ثلاث أدوات: الصندوق الاجتماعي للتنمية والرعاية الاجتماعية والحصة التموينية.
فالصندوق الاجتماعي للتنمية يهدف إلى تحسين الحالة المعيشية لحوالي 1.5 مليون أسرة فقيرة عن طريق تقديم الخدمات الضرورية والمستعجلة وخلق فرص عمل جديدة. وفي 2023 أعلنت وزارة التخطيط المكلفة بتنفيذ مشاريع الصندوق وضع خطة تتضمن 144 مشروعاً في مختلف المحافظات ولا سيما الأنبار وميسان. وفي 2024 أشارت الوزارة إلى مشاريع في 500 قرية الأكثر فقراً مثل ترميم الطرق ومد خطوط كهربائية.
ويتم تمويل الصندوق عن طريق قروض يقدمها البنك العالمي. ومن الناحية المبدئية لا ضير في الاقتراض من أجل التنمية الاقتصادية والاجتماعية. ولكن من الممكن الاستغناء عن مثل هذه القروض الخارجية بإصلاح السياسة المالية المتعلقة بالإنفاق العام.
وأما ما يخص الرعاية الاجتماعية، فينص قانون الرعاية الاجتماعية رقم 11 لسنة 2014 على حق كل شخص مقيم في العراق ويعيش تحت خط الفقر في الحصول على إعانة نقدية شهرية. وحدد القانون مبلغ الإعانة للأسرة بواقع 105 آلاف دينار لفرد واحد، 210 آلاف دينار لفردين، 315 ألف دينار لثلاثة أفراد، و420 ألف دينار لأسرة مكونة من أربعة أفراد فأكثر.
لا شك أن الرعاية الاجتماعية ضرورية، لكنها تعاني ثلاث مشكلات. الأولى ضآلة مبلغها الذي لا يتناسب مع معدلات التضخم. والثانية أن عدداً كبيراً من الفقراء لا يحصلون عليها. والثالثة أن أشخاصاً (قدر عددهم بنحو 100 ألف في السنة) يحصلون عليها من دون وجه حق عن طريق الرشوة وتقديم معلومات خاطئة.
وأما الحصة التموينية فقد ظهرت هذه الحصة في العام 1990 بعد شهر واحد من قرار مجلس الأمن القاضي بفرض حصار شامل. لم يكن هدفها معالجة الفقر، بل دعم القوة الشرائية للمواطنين. وكانت مقررة لمواجهة ظروف وصفت حينئذ بالمؤقتة. والحصة عبارة عن مواد غذائية في المقام الأول تباع بأسعار منخفضة عن طريق البطاقة التموينية. كانت توزع على جميع الأسر العراقية بغض النظر عن حالتها المعيشية ومستوى دخولها. وكانت تغطي قسطاً مهماً من الاستهلاك الشهري.
في الوقت الحاضر تختلف الحصة التموينية عن الرعاية الاجتماعية في أمرين، الأمر الأول أن الحصة مواد تباع في الأسواق بأسعار مدعومة. في حين أن الرعاية الاجتماعية مبالغ نقدية تدفع للمستحقين. والأمر الثاني أن الحصة تشترط الجنسية العراقية والإقامة داخل الدولة. أما الرعاية الاجتماعية فتقدم للعراقي والأجنبي شرط الإقامة في العراق.
كما أضيف إلى نظام الحصة شرط جديد وهو الدخل المنخفض. ومن ثم أصبحت توزع على الفقراء وليس على جميع المواطنين.
تخصص الدولة في الميزانية العامة مبلغاً لهذه الحصة في باب "النفقات الحاكمة - نظام التوزيع العام". شهد هذا المبلغ ارتفاعاً كبيراً في الآونة الأخيرة. فقد انتقل من 794 مليار دينار في 2021 إلى 3662 مليار دينار في 2024. (الدولار يساوي 1300 دينار). يعاني هذا النظام مشكلتين: الأولى حصول عدد من الأسر على الحصة من دون أن يكون لها الحق بسبب الفساد المالي. والثانية أن رخص المواد الغذائية للحصة لا يتأتى فقط من الدعم الحكومي للأسعار، بل كذلك من انخفاض جودة موادها.
ما العمل؟
تتجه نسبة الفقر في العراق نحو الارتفاع وتزداد شدة الحرمان. الأمر الذي يقود إلى ارتفاع مؤشر الفقر المتعدد الأبعاد. نستنتج من ذلك عدم كفاية وضعف فاعلية الأدوات التي تستخدمها الاستراتيجية الحكومية للتخفيف من الأزمة. ومعالجة الفقر يجب أن تتناول التصدي للفساد المالي والإداري وزيادة فرص العمل.
كما يستحسن الاستفادة من تجارب الدول الأخرى. وبهذا الصدد لا بد من الإشارة إلى التجربتين الصينية والسورية، فقد استطاعت الصين خلال فترة قصيرة لا تتجاوز العقدين القضاء شبه التام على الفقر. استغلت النمو الاقتصادي في خلق فرص عمل جديدة امتصت الملايين من الفقراء.
أما في سورية فقد أدت الصراعات الداخلية العنيفة والفساد المالي إلى تدمير اقتصاد البلد من جميع جوانبه. وهكذا انتقلت نسبة الفقر فيها من 30% من سكانها في عام 2000 (وهي عالية) إلى 82% في 2023.
والعراق بلد ريعي لا يفضي النمو فيه بالضرورة إلى خلق فرص عمل. وهو لا يختلف كثيراً عن سورية من حيث صراعاته العقيمة، لذلك لا بد من التصدي للريعية عن طريق تحسين الصناعة التحويلية والزراعة في القطاعين العام والخاص. ولا بد من وضع نهاية للصراعات الداخلية. عندئذ يصبح القضاء على الفقر ممكناً.
ومن جهة أخرى، لا مشكلة اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية في العراق من دون أن تكون لها صلة مباشرة بالفساد المالي. فحسب منظمة الشفافية الدولية يحتل البلد المرتبة العالمية رقم 154 في الفساد المالي (الصومال التي تقع في المرتبة العالمية 180 هي الدولة الأكثر فساداً في العالم)، لذلك لا يمكن للآليات المتبعة حالياً التخفيف من حدة الفقر من دون التصدي بحزم للفساد.
الخلاصة أن أزمة الفقر في العراق لا تكمن في عدم كفاية الإيرادات العامة، بل في سياسة الإنفاق غير السليمة. ويتعين أن تستند هذه السياسة إلى المصلحة العامة فقط وليس إلى التوافقات الطائفية والاعتبارات الحزبية والمصالح الشخصية.