المطارَد

19 ابريل 2019
شفيق عبود/ لبنان
+ الخط -

"وحيد، يا رباه كم أنا وحيد"... هذه هي الشهقة التي عبّر بها بطل قصة حسيب كيالي، "المطارَد"، عن حالته بعد أن أيقن أنه بات ملاحقاً ومراقَباً تترصّده عيون المخبرين في كل مكان. لم يكن مثل هذا البطل وحيداً في حقيقة الأمر، فقد انشغلت القصّة القصيرة العربية منذ حضورها الفني في الثقافة العربية بأمثاله، وغالباً ما كانوا من أولئك الصغار المغمورين الذين يجدون أنفسهم فجأةً وسط حالة حصار خانقة تتسبّب في أزمة نفسية وروحية عميقة لا يعرفون كيف يتخلّصون منها. والملاحظ أن الموضوع استهوى كتّاب القصة أكثر من كتّاب الرواية.

ولعل السبب أن القصة تستطيع أن تضع القارئ في الأجواء الكابوسية التي تنجم عن المطاردة الحقيقية، أو عن الإحساس بالمطاردة الذي قد يعيشه الفرد بسبب انتشار حالة الخوف العام في البلاد التي تحكمها أنظمة تتّسم بقهر الفرد. ومن المصادفات أن يكون كاتبان آخران قد نشرا قصّتين تحملان اسماً مقارباً هو "المطاردة"، في عددين لا يفصل بينهما سوى بضعة أشهر من مجلّة "المعرفة" السورية، الأول هو السوري ياسين رفاعية، والثاني هو الأردني فخري قعوار، بينما صدرت مجموعة قصص حسيب كيالي "المطارد" بعد ذلك بقليل.

الملاحظة الأولى أن القصص الثلاث التي أشرنا إليها تحرم المطارد من الاسم، بل إنها لا تمنحه حتى الحرف "ك" الذي تباهى به كافكا في رواية المحاكمة، وتخفي هوية من يطارده أيضاً. وبينما يقدّم كيالي بعض الإشارات للتعرف على هوية من يطاردون بطل قصته، وهم جماعة الوزير، أو "هم" الذين يريدون أن يلفظوه مثل خرقة، أو "هم" الذين يريدون أن يصفّوا دمه قطرة قطرة، لا يقدّم ياسين رفاعية ولا فخري قعوار مثل هذا التعيين لقصّتيهما. وهما يضعان البطل في لحظة المطاردة منذ السطر الأول، دون أن توضّح لنا أسباب ذلك.

وفي القصص الثلاث، سنجد معظم العناصر التي يتألف منها عالم الكابوس: براءة البطل، والرغبة في الحياة، والمطاردة المجّانية، والحصار، والنهاية الغامضة التي لا يُعرف فيها مصير الفرد المطارَد أو موقف الجهة التي تطارده.

بل إن البطل الذي يتأمل حكمة الخالق في الخلق، وفي التنوع بين البشر، في حياته اليومية، قبل أن يشعر أنه مطارد، بات يرى أن وجوه الناس ليست متشابهة وحسب، بل هي تشبه وجه الشخص الذي يطارده، في قصة ياسين رفاعية. يمكن لمعظم الروايات والقصص الكابوسية العربية أن تعترف بأثر كافكا، من دون أن ينفي هذا التأثُّر الفني أو الفكري وجود الواقع الكابوسي.

غير أن إخفاء الفاعل في هذه القصص، أو التغاضي عن هويته (الذي يمكن أن يكون تعبيراً آخر عن مستوى الخوف الذي تتمكّن السلطة من تثبيته في قلوب الناس وفي ضمائرهم والكتّاب مواطنون يخافون أيضاً) يتسبّب في حرمانها من حرارة التوصيل، فالقارئ الذي خبر أهوال الواقع الذي يستبيح فيه الكابوس معظم جوانب حياته، قلّما يتعاطف مع القصة التي لا تشير إلى هوية المطارَد، أو هوية من يطارده.

المساهمون