هبة بو عكر.. تخطيط بيروت انطلاقاً من ضواحيها

11 يوليو 2024
هبة بو عكر أثناء المحاضَرة (العربي الجديد)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- **ترسيم عقاري لحدود طائفية:** تستعرض هبة بو عكر في كتابها "لحرب مُنتظَرة: تخطيط حدود بيروت" تأثيرات الحرب الأهلية اللبنانية على تخطيط المدن، مركزة على ضواحي بيروت الجنوبية الشرقية مثل دوحة عرمون وصحراء الشويفات وحي ماضي/ مار مخايل.

- **قراءة بعيدة عن خطاب "إعادة الإعمار":** يشير الكتاب إلى أن التخطيط المديني في بيروت يتمحور حول ترسيم حدود طائفية جديدة تحت غطاء إعادة الإعمار، مع تسليط الضوء على دور "سوليدير" كأداة سياسية.

- **النزاع على الأنقاض وجنون البناء:** تُحلل بو عكر علامات النمو المديني في المناطق المدروسة، مشيرة إلى عمليات بناء غير منظمة وفشل التخطيط المديني، وتطرح تساؤلات حول أفق الانتفاضات والفضاءات العمومية.

"كيف نُخطّط للمُدن في ظلّ شبح حرب حاضر دائماً؟"، بهذا التساؤل المُوجَز حدَّد عالِم الاجتماع الإيراني الأميركي آصف بيات موضوع كتاب الباحثة اللبنانية هبة بو عكر، "لحرب مُنتظَرة: تخطيط حدود بيروت" ("منشورات جامعة ستانفورد"، 2018)، الذي صدرت ترجمتُه حديثاً عن "الفرات" بتوقيع عبد الرحمن أياس. وقد عادت الأستاذة المُساعدة في الكلّية العُليا للعمارة بـ"جامعة كولومبيا"، لتتوسّع في تفصيل هذا المفهوم وشرحه خلال تقديم كتابها إلى القرّاء، في مُحاضَرة عُقدت مساء الاثنين الماضي في "مكتبة برزخ" ببيروت، بالتعاون مع "استديو أشغال عامّة".


ترسيم عقاري لحدود طائفية

انتهت الحرب الأهلية اللبنانية قبل أكثر من ثلاثين عاماً، لكنّ مفاعيلها وارتداداتها لم تنتهِ بعد، هذا ما تقوله بو عكر في كتابها الذي تُعاين به ضواحي العاصمة اللبنانية الجنوبية الشرقية: من دوحة عرمون جنوباً، مروراً بصحراء الشويفات (هي منطقة سكنية وليست صحراء)، وحتى حي ماضي/ مار مخايل؛ هذا الخطّ المعروف بـ"طريق صيدا القديمة" الذي يُرسّم حدود الضاحية الجنوبية لـ بيروت، معقل "حزب الله"، تشتغل على أطرافه "حروب تخطيط مديني"، وصراعات سياسية عميقة تُذكِّر بذلك "الخطّ الأخضر" الذي فصَل بيروت، طائفيّاً، إلى شرقيّة وغربيّة بين 1975 و1990.

قراءة بعيدة عن خطاب "إعادة الإعمار" ومركزية وسط المدينة 

يكتسب الكتاب أهمّيته من كونه مسحاً ميدانياً إثنوغرافيّاً استوحى عنوانه من النُّذر بـ"حرب مُنتظَرة" وشائعات العسكرة، لكنّه لا ينتظرها بقدر ما يتعامل معها على أنّها قائمة بالفعل، فبمجرّد أننا نُخطّط الواقع تحسُّباً للحرب نكون بذلك قد استدعيناها وحوّلنا حياتنا إلى امتداد لها، فضلاً عن أنها قائمة بالفعل هذه المرّة، وعلى هيئة عدوان إسرائيلي مستمرّ منذ تسعة أشهر.

نبقى مع أجواء ما بعد الحرب الأهلية، وبزوغ "سوليدير" ("الشركة اللبنانية لتطوير وإعادة إعمار وسط بيروت") التي تعدّت وظيفتَها من كونها شركة إلى "خطاب"، أو "وعد بمستقبل أفضل، حيث الأبنية المُلوَّنة والشوارع المُضاءة"، ليتبيّن فيما بعد أنّ هذا الخطاب ليس أكثر من ترسيم عقاري للحدود الطائفية في لبنان، إنّما بأذرُع وأدوات تنفيذ سياسية. من هُنا تنطلق بو عكر من موقع طرَفي يقرأ الضواحي وحدود المدينة بالعكس من وعود إعادة الإعمار.

من كتاب هبة بو عكر - القسم الثقافي
الخريطة الافتتاحية في الكتاب

إنّ منطق الحرب المنتظَرة، كما تُوضّح الباحثة: "يأخذ طابع الحرب في زمن السِّلم، لا تخوضها الطوائف بالبنادق والدبّابات، بل بعمليات بيع وشراء الأراضي والشقق والمُمتلكات، الأمر الذي يشبك الحدود ببعضها، فيتداخل ما هو سكني بما هو صناعي في مناطق فقيرة على الأغلب، تُسلِّم أمرها لأحزاب سياسية طائفية (ذات أصل مليشياوي) تعمل داخل الحكومة وخارجها، وعلى رأسها: حزب الله عن الشيعة، وبشكل أقلّ حركة أمل، وتيّار المستقبل عن السنّة، والحزب التقدمي الاشتراكي عن الدروز، والكنيسة المسيحية المارونية وما يرتبط بها من أحزاب: التيّار الوطني الحرّ، والقوّات اللبنانية، والكتائب".
 

النزاع على الأنقاض وجنون البِناء

وبالنظر في عمران المناطق الثلاث المذكورة أعلاه، تخلُص الباحثة إلى ثلاث علامات للنمو المديني: ازدواجية الأنقاض، وتخريم الفرز، والحدود المنفوخة (عناوين الفصول الثاني، والثالث، والرابع من الكتاب). ويُمكن أن يُساعد التمثيل في فَهم هذه المصطلحات الاختصاصية، فازدواجية الأنقاض، وفقاً للباحثة، "تتّضح من خلال اتخاذ الأنقاض والبيوت المتضرّرة من الحرب مساكن مُرمّمة ترميماً ناقصاً وعلى عجَل، وهذا ما حدث في حي ماضي/ مار مخايل، الذي تحوّلت بعض بيوته المنخورة بالرصاص إلى منطقة شقق فخمة باهظة الثمن، بعدما لفَظت كلّ من نزَح سابقاً إلى المنطقة، في حين أنّ عمارات أُخرى ظلّت على ما هي عليه، لأنّ طرفاً طائفياً (الكنيسة) منع آخَر (العقاريّين الشيعة) من استكمال التطوير العقاري خوفاً على حدوده"، وتحت هذا تندرج محاولات حَظْر بعض البلديات بيع الأراضي بين الطوائف.

"تنمية" مبنيّة على أساس طائفي أدّت إلى تشوّهات حضَرية

وإلى الجنوب من حي ماضي تقع صحراء الشويفات، حيث يتمثّل طرفا خطّ التماس بـ"التقدّمي الاشتراكي" و"حزب الله"، وتُنبّه بو عكر إلى أنّ هذه المنطقة كانت خلال الحرب الأهلية أرضاً زراعية تخضع لحراسة مُلّاكها الدروز، "لكنّ مشاريع الإسكان ذات التكلفة المنخفضة بدأت بالانتشار فيها بعد نهاية الحرب الأهلية، لتستوعب بعد ذلك العائلات المُهجَّرة من حي ماضي، وهذا ما دفع بالحزب التقدمي الاشتراكي إلى تصنيفها منطقة صناعية، وفي الوقت نفسه ضغط حزب الله لتصنيفها منطقة سكنية، ومع الأخذ والردّ السياسي بين الجهتين استمرّت قوانين البناء بالتغيُّر لفترة تجاوزت الاثني عشر عاماً"، وهذا ما تُسمِّيه بو عكر بـ"التخريم".

الحرب المنتظرة
ارتدادات لم تنتهِ للحرب الأهلية اللبنانية على تخطيط بيروت الحضَري

أمّا الحدود المنفوخة، أو جنون البناء، فتُعرّفها بو عكر من خلال منطقة دوحة عرمون، أبعد الضواحي الثلاث عن بيروت، التي يتطرّق لها الكتاب: "حيث تمتزج فيها العمارات الفخمة مع مظاهر الفقر المُدقع، مما يجعل المنطقة تنتفخ من دون تنظيم، المطوّرون العقاريون ينفخون المخطّطات السكنية على حساب المساحات العامة، وإلى هذه المنطقة عادت العائلات السنّية التي لم تعد قادرة على العيش في بيروت حين كان الوسط العقاري للمدينة يخضع، بمعيّة رئيس الوزراء الأسبق، رفيق الحريري، لعمليات إعادة الإعمار، وهُنا جاء دور تيّار المستقبل ليُعزّز ربط دوحة عرمون ببيروت، وكذلك صيدا جنوباً، من خلال الاستثمار بمشاريع حكومية، والاهتمام بالبنى التحتية، مستثنياً من ذلك المناطق التي لا تشملها قواعد السياسة".

بعد هذا العرض تخلُص بو عكر إلى أنّ "المخطّطين المدينيّين أصبحوا مجرّد تقنيّين، وأدوات بيد الأحزاب الطائفية، ومتماهين تماماً مع منطق الحرب المنتظرة، وهذا ما أدّى إلى فشل تنموي ذريع". وتُتابع: "هذا لا ينطبق على بيروت وحدها، فالمستقبل المديني حول العالَم مُتنازَع عليه، مع دعوات جدّية لإعادة تشييد الجُدران بالمعنى الحرفي لإبعاد غير المرغوب فيهم، وليست الإبادة الجماعية في غزّة، وإغراق اللاجئين بمياه المتوسّط، سوى مقدّمات مُرعبة لتلك التقنيات الأدقّ".

أمام هذا "الواقع المسوَّر" الذي طرحته بو عكر، يُمكن بدورنا أن نتساءل معها: أيّ أُفق للانتفاضات وفي أيّ الفضاءات العمومية تتحرّك؟ أليست الثورات "احتلالاً للمكان وإعلاناً للحقّ فيه"؟ كما كان يُنظِّر لها في ستينيّات القرن الماضي، عالم الاجتماع الفرنسي هنري لوفيفر، أو الأميركي ديفيد هارفي اليوم. في الفصل الأخير من الكتاب "مستقبل مُتنازَع عليه"، محاولة للإجابة عن هذه الأسئلة، مع الإحالة إلى تجارب نقابيّة بيروتية تغييرية كسَرت نمطية التحرُّك الطائفي، لكن ما مدى نجاعتها وفعالية هذه التجارب حقّاً، بعد المآلات التي وصلت إليها انتفاضة 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2019؟ هنا لا يُقدّم الكتاب إجابات مباشرة وحاسمة، بقدر ما يبدو أنّه سعيٌ جادٌّ لتفكيك واقع قائم، ورغبة في الوصول إلى نمط عيش حضَري كريم خارج سجن "الحرب المُنتظَرة" وتشوُّهاته.

المساهمون