يحيى حقي.. رجل الكتابة الباسمة

07 يناير 2015
(7 يناير 1905 - 1992)
+ الخط -

قالوا قديماً إن للوجوه علامات يمكن قراءة صاحبها بها، فكان العرب إذا رأوا غريباً قالوا: هذا كريم وهذا لئيم. فما يحدث في النفس لا يستقر بها بل يصعد على الملامح ليكسبها طابعها، من أين إذن يمكن إدراك قساوة وجه الغاضب أو ليونة الرحيم أو لوعة المشتاق؟ نظرة على صورة يحيى حقي الباسمة يدخله القلب دفعة واحدة، صاحب هذه الملامح لا يمكن أن يضمر إلا كل خير ومحبة.

لكن، ما الداعي إلى كلام عن الوجه وما يحمله في ذكرى حقي (تمر اليوم 110 سنوات على ولادته)؟ ذلك أن كتابته كأنها منقولة عن وجهه، كتابة محِبة بخفة ورشاقة حكّاء عظيم. تنبه حقي إلى منجم الخيال الكامن في بيئته منذ نعومة أظفاره كما كان يحكي في كتابه "كُناسة الدكّان"، مخيلته التي بدأت سمعية بأصوات القرية الليلية وحيواناتها ثم أساطيرها كأمّنا الغولة، والبومة التي تنذر بخبر موت أحدهم، والديك الذي يؤذن مع الملائكة، والقرين الذي يعيش تحت الأرض الذي تمنى يوماً لقاءه.

تربّى الطفل يحيى حقي على أمنية أن يكون له زوجتين: إحداهما الجنية التي تعيش في قصر النار، والأخرى حورية البحر التي ستأتمنه على أسرار البحر وكنوزه.

الرشاقة في لغته ليست فقط بنت خيالها، لكنها بنت نظرته إلى العالم، وهو المحب العاشق للغة العربية وكتب في محبتها العديد من المقالات، هي المحبة التي لا تلجئه إلى كلمات معجمية قليلة الاستخدام، ولا لجمل مركبة الكلمات والمعاني حتى يثقل حملها وفك شفرتها، بل هي محبة خفيفة بميزان اللؤلؤ، فالمجاز ليس عقاباً لقارئه ولا البلاغة أذية في عين الرائي، بل هي فسحة بين المعاني ورسمها.

كان أستاذاً من أساتدة المحو، فالكلمة التي لا تغيّر المعنى إذا حذفت لا ترجع "وأنت تكتب عليك بمحاولة استبعاد كل كلمة من الجملة فإن بقيت الجملة مفهومة فلتحذف هذه الكلمة فوراً وادخل في الموضوع مباشرة. إنه ما يسمى بفلسفة الحتم، لأن الصيغ الكثيرة التي نستخدمها استوحيناها من الترجمات الغربية ولا علاقة لها باللغة العربية".

حقي في نثره يجلس إلى جانب قارئه ويفيض عليه مما تسعفه به الذاكرة، دون استطرادات تجعله يتوه في تفاصيلها الغزيرة، يأخذه من يديه إلى عوالمه ويقول له "تعال معي إلى الكونسير" ويطلعه على أسرار الأوركسترا وشجونها، وعن معنى الموسيقى هذه اللغة المفهومة للجميع والمستعصية على الفهم في آن. ثم يفيض عليه بما يراه في موسيقى سيد درويش والكاريكاتير في أغنيته وجملته الموسيقية.

ثم ما يلبث أن تعود إليه لوحات من ذكرياته في مدرسة الحقوق وعمله في مناطق مختلفة من مصر، وعينه اللاقطة التي رأت في العلاقات الإنسانية ما هو أبعد من ظاهرها. كل هذا الجمال وكل هذا البذخ وكأنه متكئ على عصاه ويتدفق ويحكي، وهو القائل "إذا أردت أن تَسعد فعليك أن تُسعِد غيرك أولاً".

هل يمكن لكتابة أن تكون باسمة؟ هذه هي كتابة يحيى حقي، باسمة ومحِبّة، تخبّ في خيالها، كما كان هو في رداء المحاماة يخبّ في "روب" خياله.

المساهمون