يوميات أغيم فينتسا: من أدب الجائحة في غرب البلقان

18 ديسمبر 2020
(أغيم فينتسا)
+ الخط -

كانت في البداية خواطر ثم تحوّل الحديث عن نتاج أدبي جديد خلال شهور وربما سنوات كورونا وحتى عن ثقافة جديدة تتبلور ببطء نتيجة للمتغيّرات التي فرضت نفسها نتيجة التباعد الاجتماعي والحَذَر من الآخر والخوف من المجهول، خاصة في الدول الأوروبية والأميركية التي حصدت فيها جائحة كورونا ملايين الإصابات والوفيات، فأفلست ثقافة السَّفر والمكتبات التي كانت جزءاً أساسياً من الحياة الثقافية، وأُغلقت المسارح ودور السينما لتنتعش عولمة جديدة تقوم على "أمازون" للكتب و"نتفليكس" للأفلام و"زووم" للندوات والمؤتمرات.

في الشهور الماضية، نُشرت عدة كتب مما يُدرج تحت "أدب كورونا"، الذي هو نتاج الحجر البيتي، حيث تراوحت بين يوميات وحتى روايات حسب انشغالات أصحابها. ومن هنا ربما يمكن معايرة هذه الكتب وما تعنيه للقرّاء حسب مكانة أصحابها في الحياة الثقافية، حيث إن فترة الحجر البيتي التي جاءت بشكل مفاجئ ألغت أنشطة ومشاريع لأصحابها، ولكنها كانت مفيدة في مراجعة الكاتب لنفسه ومكتبته وتأملاته في الواقع الجديد واستشرافه للمستقبل، وهي كذلك مفيدة للقارئ الذي يتعرّف أكثر على المؤلف الذي كان يتابعه لسنوات أو عقود.

من هذه الكتب لدينا "يوميات الجائحة"، الصادر حديثاً للشاعر والأكاديمي المقدوني - الكوسوفي أغيم فينتسا، المعروف في غرب البلقان، في مقدونيا الشمالية وكوسوفو وألبانيا وفي البوسنة التي صدرت له فيها عن دار "برفكتا" (سراييفو) عام 2019 مختارات من شعره في البوسنوية، قبل أن تصدر قبل أيام في بريشتينا عن "دار أرتيني" في 298 صفحة. وتجدر الإشارة هنا إلى أن بعض أشعار فينتسا تُرجم إلى العربية بمناسبة مشاركته في "دورة شعراء المتوسط" التي عُقدت عام 2018 في رام الله، وأثارت الاهتمام بشكل خاص قصيدته عن فلسطين.

في مقدّمته لليوميات التي تغطي حَجْراً بيتياً متواصلاً استمر ثمانين يومياً من 14 شباط/ فبراير إلى 1 حزيران/ يونيو 2020، يقول المؤلف إنّ ما حدث سيترك تأثيره على الثقافة، حيث إنه اكتفى بيوميات بينما يتوقع أن تُؤلّف روايات وتُنتج أفلام عن هذه الجائحة في المستقبل القريب. ومن ناحية أُخرى، أوضح في المقدمة أنه حرص على أن يوازِن بين ما هو شخصي وعائلي وحميم وبين ما هو اجتماعي وثقافي وقومي عام، مع اعترافه هنا بصحة ما قاله كامو في "الطاعون" من أنه يجعل البشر يعيشون في الماضي أكثر من الحاضر والمستقبل، حيث إنه استعاد كثيراً من ذكريات طفولته.

تغطي اليوميات حجراً بيتياً متواصلاً استمر ثمانين يومياً

تتفاوت اليوميات بطبيعة الحال حسب الأيام؛ فقد تصادفت كثير من هذه الأيام مع مناسبات محلّية وعالمية (يوم الشِّعر العالمي، يوم الطفولة العالمي، يوم أوروبا، رمضان، عيد الفطر إلخ)، ولذلك كان المؤلف يتوقّف عندها ويعلّق عليها مع استدعاء ذكريات الطفولة التي هي مُهمة للتعرّف على ثقافة مجتمع بغالبية مسلمة وما طرأت عليه من تحولات كبيرة. وفي أيام أُخرى يشعر المؤلف بحيوية تجعله يرتّب مكتبته ويعيد أو يستعيد قراءة بعض المؤلفات ويعلّق عليها، مما يجعل تلك اليوميات مفيدة للقارئ وتحفّزه على قراءة تلك المؤلفات. ومن ناحية أُخرى، تصادفت في تلك الأيام أزمات وخلافات سياسية كبيرة في كوسوفو تتداخل أيضا مع المحيط البلقاني، ولذلك كان المؤلف يضطر لمتابعة نشرات الأخبار والنقاشات في البرامج التلفزيونية ويعلّق عليها أيضاً، كما أنه كان يشاهد بعض المسلسلات والأفلام ويعلّق عليها بما يفيد القارئ.

ومن هذه اليوميات الغنية بالتأملات والتحليلات واستدعاء الماضي واستشراف المستقبل اخترنا بعضها التي قد تهمّ أو تضيف جديداً للقارئ العربي.

في اليومية الأولى يتحدث عن أصل الكلمة اللاتينية (كورونا)، وفي اليومية الثانية يتحدث عن الأوبئة التي اجتاحت العالم وخاصة أوروبا في العصر الوسيط (الطاعون أو "الموت الأسود"). ولكن المهم هنا ما يوضّحه مِن أنّ انتشار الطاعون رافق الحروب العثمانية - النمساوية في الربع الأخير من القرن السابع عشر بعد فشل حصار فيينا واندفاع الجيش النمساوي بقيادة الجنرال بيكولوميني لاجتياح البلقان. فقد نجح الجنرال في اجتياح كوسوفو ومقدونيا، ولكنه عندما وصل إلى مدينة سكوبيَه، التي كانت من أكبر المدن ومن مراكز الثقافة الإسلامية في البلقان، رأى في 1690 أن يحرقها بسبب الطاعون! ويستشهد فينتسا هنا بيوميات الجنرال التي يقول فيها: "سكوبيه مدينة كبيرة... تكاد تكون مثل براغ في حجمها. ويؤسفني أنه عليّ أن أحرق تلك المباني الجميلة التي لم أشاهد مثلها في أوروبا، تلك الجوامع المبنية من الرخام...".

في يومية 17 آذار/ مارس، يذكر أنه شاهد الحلقة الأخيرة من مسلسل "تروتسكي"، قائد الجيش الأحمر في روسيا البلشفية والمعارض الشرس لستالين الذي أرسل من يغتاله في منفاه في المكسيك في آب/ أغسطس 1940. وهنا يشيد فينتسا بذكاء تروتسكي وقدراته النظرية والتنظيمية التي كانت تفوق ما لدى لينين، حسب رأيه، ولكنه يكشف عن جانب غير معروف كثيراً، وهو أن تروتسكي بدأ حياته العملية مراسلاً عسكرياً لجريدة "كييفيسكايا ميسل" لتغطية حرب البلقان ضد الدولة العثمانية خلال 1912 - 1913. وهنا يذكر نبوءة مدهشة لتروتسكي في أحد تقاريره تقول: "إن صربيا احتلت منطقتين يقطنهما سكّان غير صرب، كوسوفو ومقدونيا، وستكون لها مشاكل معهما في كلّ وقت"، وهو ما تحقق خلال مئة عام تقريباً، وانتهى باستقلال مقدونيا الشمالية وكوسوفو.

في يومية 21 آذار/ مارس، التي تصادف أول أيام الربيع الذي أعلنته "يونسكو" في 1999 "يوماً للشعر العالمي"، يذكر فينتسا أنه يقرأ في الصحف والمواقع الثقافية الألبانية ما يُنشر من أشعار عن جائحة كورونا، ولكنه بما عُرف عنه من جدّية وعدم مجاملة يقول إنها "غالباً ضعيفة وعادية ومملّة" ينقصها "فن الألم الإنساني"، ويستشهد هنا ببيتين من أشعار الشاعر أدونيس الذي قرأه بالفرنسية:

"للفرح أجنحة وليس له جسد، 
للحزن جسد وليس له أجنحة"

أمّا يومية 1 نيسان/ إبريل التي صادفت "كذبة نيسان"، فعنونها "الثلج يغطّي الأوساخ ولا يُخفي الأكاذيب"، في إشارة إلى الخلافات والمهاترات السياسية بين الأحزاب والشخصيات السياسية في كوسوفو في الوقت الذي تحتاج فيه البلاد إلى ائتلاف لمكافحة الخطر الكوروني الجاثم فوق الجميع.

نافذة على ثقافة وتحولات المجتمع الألباني في مقدونيا

في يومية 18 نيسان/ إبريل، يقول إن شَعره قد طال كثيراً بسبب الحَجْر، ولما اتّصل بالحلاق لكي يأتي عنده هذه المرّة إلى البيت اعتذر، ولذلك قرّر أن يحلق رأسه ولحيته "على الصفر"، وهو ما ذكّره بأيام السجن التي تبدأ بحلق الشعر في 1996، حينما حكمت عليه السلطات الصربية آنذاك بالسجن بسبب زيارته لألبانيا دون الحصول على "تأشيرة خروج" كانت قد أصبحت من الماضي، ولكن السلطات كانت تتعامل بانتقائية مع المعارضين.

في يومية 24 نيسان/ إبريل، التي صادفت أول أيام رمضان، يسترسل فينتسا في ذكريات مثيرة عن طفولته وقريته التي تقع قرب ستروغا التي أصبحت مشهورة بسبب مهرجان الشعر العالمي الذي يُعقد كل سنة هناك. ويكشف النص عن جانب مثير في الإسلام لدى الألبان؛ فقد كان والده يصوم ثلاثة شهور في السنة ويداوم على الصلاة في الجامع ويقرأ القرآن، ولكنه كان منفتحاً على تقاليد القرية التي كانت تشتهر بصنع العرق في البيوت، وهو ما كان يتم باحتفالية عائلية خاصة. ويشير هنا إلى أن ثقافة القرية كانت تجعل النبيذ محرّماً بشدة (لا تقترب الملائكة من شارب النبيذ أربعين يوماً)، بينما العرق غير ذلك! صحيح أن والده ترك شرب العرق في وقت متأخّر، ولكنه لم يكن يمانع في تقديمه للضيوف وتمني الصحة لهم.

في يومية 27 نيسان/ إبريل التي تصادف "يوم المفقودين"، وهو الموضوع الذي أصبح راهناً ومؤلماً أكثر بعد النزاعات والحروب التي امتدّت من اليمن إلى كرواتيا، ولكن له صداه الخاص في كوسوفو وصربيا بسبب مخلفات حرب 1999. فقد خلّفت الحرب في كوسوفو أكثر من 11 ألف قتيل وحوالي ألفي مفقود. وبعد البحث الدائم بتوسط المنظمات الدولية، تقلَّص عدد المفقودين إلى 1446، لا تزال أُسرهم تعيش على أمل العثور على رفاتهم، لكي لا تكون هناك "قبور فارغة" لهم، حسب التقليد القديم في البلقان. وقد تصادف خلال قراءة هذه اليومية ما نشرته الصحافة الصربية عن اكتشاف مقبرة جماعية لكوسوفيين في منجم كيزافك، الذي يقع على بعد 250 كم جنوب بلغراد، قرب الحدود مع كوسوفو، أي أن الأمل لا يخبو مع الزمن.

الصورة
يوميات الجائحة - أغيم فينتسا - القسم الثقافي

في يومية 6 أيار/ مايو التي تصادف "عيد مار جرجس" (في الألبانية شِن جرجي)، يكشف د. فينتسا عن تقاليد مثيرة لهذا اليوم المهم في ثقافة الألبان من مسلمين ومسيحيين. فمع تسليمه بالأصل الوثني له، الذي كان يترافق مع قدوم الربيع (الذي يتأخر في أوروبا)، والاحتفال به في الطبيعة مع ذبح قرابين، أصبح مع الزمن عيداً مهماً عند الألبان، مسيحيين أولاً ثم مسلمين لاحقاً؛ حيث يبدأ اليوم بقيام الأم بإيقاظ الأولاد برشّهم بقطرات الورد المغمس بالماء أو تحميمهم بالماء المغمس بالورود ثم ارتداء ما لديهم من ملابس أنيقة (حسب الحال)، والخروج للاحتفال بهذا العيد في أحضان الطبيعة مع ما لذّ من طعام وشراب.

في يومية 10 أيار/ مايو، يتساءل: ما هو الكتاب الجيّد؟ ويجيب على ذلك بأنه "الكتاب الذي يغيّر الإنسان"، ويُعطى أمثلةً كثيرة: الألياذة والأوديسة والإنجيل والقرآن وديوان سعدي الشيرازي وفوست وغوته و"رأس المال" لماركس و"أصل الأنواع" لداروين وغيرها.

في يومية 21 أيار/ مايو، يعيد قراءة "الطاعون" لكامو، ويركز فيها على التغيّر الذي يُحدثه الوباء في شخصيات الرواية، ومن ذلك رجل الدين باتلو، الذي كان يتهم رعيته بكونهم المسؤولين عن انتشار الوباء بسبب ما يرتكبونه من ذنوب أثارت غضب الخالق، ولكنه مع الأيام يتغيّر ويتواضع وينزل إلى الميدان للمساعدة في علاج المصابين حتى يُصاب بالطاعون ويموت. ويُذكّر ذلك ببعض رجال الدين المسلمين في كوسوفو الذين كرّروا مثل هذا الخطاب مع مواطنيهم.

في اليومية الأخيرة، 1 حزيران/ يونيو، التي عنونها "انتصار الحياة"، خرج إلى وسط البلد ليلتقي هناك أصدقاءه الشعراء والأكاديميين الذين افتقدهم طيلة الشهور السابقة. ولكن فينتسا شاء أن يختم هذه اليوميات بقصيدة للشاعر التشيلي نيكانور بارا (1914 - 2018)، لأنها تعبّر عما كان يشير في يومياته إلى الدروس المتوقعة من هذه الجائحة، ومن ذلك التركيز على المستقبل لكي لا يتكرّر ما حدث وتؤخذ الإنسانية بجائحة أُخرى:


النخب الأخير

أردنا أو لم نُرد
لم تبق أمامنا سوى ثلاث إمكانيات:
الماضي والحاضر والمستقبل.
تمهّل، تمهّل، ليست ثلاث،
أحد الفلاسفة قال: الماضي ولّى وراح
ولم تعد منه سوى الذكريات.
لذا لم تعد لدينا سوى ورقتين:
الحاضر والمستقبل.
تمهّل قليلاً، ليست اثنتين
بل واحدة فقط.
الحاضر لا يوجد
حيث تمضي اللحظة وتصبح من الماضي،
وبلحظة واحدة يمضي العمر مثل الشباب.
إذا حسبنا الأمر جيداً
لا يوجد لدينا سوى المستقبل،
ولذا أرفع كأسي
نخب ذلك اليوم الذي لا يأتي أبداً
ولكنه الوحيد
الذي لدينا في الحقيقة.


* كاتب وأكاديمي كوسوفي سوري

آداب وفنون
التحديثات الحية
المساهمون