يُعدُّ وِليَم غاديس (1922 - 1998) أحد أهمّ الروائيِّين الأميركيِّين الذين كتبوا رواية ما بعد الحداثة. كاتبٌ هجا الواقع والحُلم الأميركيَّين بعد الحرب العالمية الثانية؛ وتناول موضوعاتٍ مثل تلاشي الثقافة الأميركية، وتفكُّك المجتمع والاغتراب، وهزيمة الحُلم الأميركي، إضافة إلى أسئلة وجودية عن الدِّين والخير والشرّ والإيمان.
وُلد غاديس في نيويورك عام 1922. وتلقّى تعليمه في لونغ آيلاند، قبل أن يلتحق بـ"جامعة هارفارد". بعدها اشتغل في تحرير مجلّة "ذا هارفارد لامبون" الساخرة بين عامَي 1943 و1945، كما عمل لاحقاً مُدقّقاً مع مجلّة "ذا نيويوركر"، ثم أمضى خمس سنوات في السفر بين أميركا الوسطى ومنطقة البحر الكاريبي، وشمال أفريقيا، وفرنسا، ليعود إلى الولايات المتّحدة عام 1951.
أثناء رحلاته التي خاض فيها تجارب متعدّدة؛ كتب روايته الأولى "الاعترافات"، والتي نُشرت عام 1955، لكنّها لم تلقَ استحسان القرَّاء ولا النقّاد، بسبب طُولها أوّلاً، حيث تخطَّت 950 صفحةً، وطريقة السرد المُعقّدة والصعبة، والتنقُّل المشوَّش بين الشخصّيات. فضلاً عن اتّهامه بتقليد رواية "عوليس" لـ جيمس جويس، وهو ما نفاه غاديس، في كتاب "الرسائل" الذي صدر الشهر الماضي، عن دار "نيويورك ريفيو بوكس"؛ رسائلُ جمعتها ابنتُه سارة غاديس، وأعدّها للنشر ستيفن مور.
سردٌ يعرّي الذهنية الرأسمالية واحتيالها على المجتمع
يعترف غاديس في إحدى رسائله، بأنّه لم يقرأ سوى القليل من نتاج جويس الأدبي، وأنّ قراءته لجويس لم تتجاوز "أهالي دبلن"، والصفحات العشر الأُولى من مسرحية "المنفى"، وأنه لم يقترب البتّة من نصّ "عوليس". وأنه عندما كتب "الاعترافات" كان مُولعاً بدوستويفسكي على وجه الخصوص. وأنّ هذه الرواية مُستندة إلى النصوص الدينية الكالفينية الأميركية، أيّ اللاهوت الإصلاحي والكاثوليكية الأوروبية، ومجموعة واسعة من الكتابات الأدبية والفلسفية في التقاليد الغربية من أرسطو إلى غوته، وتي. إس. إليوت، إضافةً للأدب الروسي، خصوصاً دوستويفسكي وتولستوي.
ظاهرياً ترسم رواية "الاعترافات" مسيرة وايت الرسّام، وهو الشخصية الرئيسية في الرواية، الذي يتفاوض مع نفسه على فكرة العيش، ويتناول الوحدة في العالَم الحديث المُترهِّل، ونلحظ خيبته على الخصوص من فكرة الحُلم الأميركي. لكنْ على مستوىً آخَر، نرى كيف يتمُّ التعرُّف على شخصية وايت، عبر سلسلة كاملة من الشخصيات الأدبية، من أورفيوس إلى فاوست، ومن دوستويفسكي حتى فوكنر، كأنّ وايت مبنيٌّ أو مصنوع من هذه الشخصيات، بالأَحرى من صراعاتها والمفاهيم التي تُمثِّلها والإشارات اللمّاحة التي يتركها الكاتب.
أما باطنياً، فمن المُمكن الموازاة بينها وبين قراءة الكتاب المقدّس من حيث الموضوعات المطروحة؛ كالإيمان والإلحاد، الخير والشر، والوصايا العشر. "الاعترافات"، هو كتاب معقّد وفيه الكثير من الهوس والجنون، ويبدو أنّ كليهما؛ المؤلّف والشخصيات، يقفان عند أقصى درجات الخِبرة والإدراك والفكر، حيث تتّخذ كلّ شخصية شكلاً مختلفاً من الهواجس مثل؛ اللاهوت والفلسفة الغامضة، والكاثوليكية والموسيقى الباروكية، والعبث واليأس الديني، وبالطبع الانفصام عن فكرة الواقع.
ما زالت أعماله بعيدة عن محاولات المترجمين العرب
بعد النقد اللاذع واستهجان كتابه "الاعترافات"، يعود غاديس مجدّداً بعد عشرين عاماً من روايته الأولى، في كتاب ضخم ومعقّد آخر، يقع في 726 صفحة بعنوان "JR" (هو أيضاً اسم الشخصية الرئيسية في الرواية). ليكسب الرهان ويفوز بــ"الجائزة الوطنية الأميركية". في "JR" يقدّم غاديس هجاءً واضحاً وصريحاً لجميع الشركات الأميركية وهوسها بالمال، "JR" هو سردٌ لطريقة عمل الشركات واحتيالها على المُجتمَع، من خلال صبيٍّ يبلغُ من العُمر أحد عشر عاماً، يحاول أن يبحث في مفهوم المال والرأسمالية في ظلّ الهزيمة.
ومن خلال عرض مفاهيم الطبقات والشرائح والأجيال المختلفة من المجتمع الأميركي المعاصر، يُمكننا أن نُلاحظ الاختلاف في وجهات النظر بالنسبة لقيمة المال، والشَّرْخ الملموس بين طبقات المجتمع الأميركي بعد الهزيمة، وبهذا يكون غاديس وجهَ أميركا الأقرب للحقيقة. وعندما نقرأ "JR" لا بدّ أن نستحضر "مدار السرطان"، و"مدار الجدي" لهنري ميللر، فغاديس وميللر أميركيان يسخران من فكرة وجود أميركا نفسها.
وأمّا في روايته الثالثة "Carpenter’s Gothic" التي نُشرت عام 1985، وتُمكن ترجمتها بـ"المنزل القوطي"؛ ابتعد غاديس عن الروايات الطويلة، وكتب كتاباً أقصر (مئتي صفحة)، ومن نوع مختلف من حيث الشكل. تجري أحداث "المنزل القوطي" على مدار شهر، في منزل قوطي فيكتوري ببلدة صغيرة في وادي نهر هدسون، وتُقدَّم بتقنيات سردية مختلقة موضوعاته السابقة مع بعض الإضافات، حيث يناقش في هذا العمل مفهوم الدين المسيحي والمذهب الكاثوليكي بالأخصّ، ومفهوم الاقتصاد الجديد، وظهور بعض الآلات التكنولوجية الحديثة.
أنهى غاديس قبل وفاته كتابَين؛ الرواية الأولى صدرت عام 1994، بعنوان "A frolic of his own"، (تُمكن ترجمتها بـ"مَرِحٌ لا مثيل له")، وحاز عليها "الجائزة الوطنية للكتاب" للمرّة الثانية، لكنِ اختُلف على قيمتها ككلّ عمل من أعماله، فالكاتب الأميركي البارز جونثان فرانزن على سبيل المثال، قال إنّ فيها "الكثير من التكرار والإسهاب والتعقيد غير المُتماسك، والمُملّ إلى حدّ الجنون". أمّا الكتاب الثاني فهو "نوفيلا" صغيرة بعنوان "Agape Agape"، (تُمكن ترجمتها بـ"أنشودة المحبّة")، أنهاها قبل وفاته عام 1998، ونُشرت عام 2002.
ورغم كلّ الإشكاليات حول روايات غاديس، بين متحمِّس لها وحاطٍّ من شأنها، لا يُمكن الاختلاف على أصالته، وتبقى قراءته استثنائيةً لقارئ الأدب الجدّي. ورغم كثرة ما يُترجَم عربياً من روايات في العَقدين الأخيرين، إلّا أنّ صاحب "الاعترافات" بقي بعيداً عن محاولات المُترجمين العرب.
* كاتب من فلسطين