تقف هذه الزاوية مع مبدع عربي في أسئلة سريعة حول انشغالاته الإبداعية وجديد إنتاجه وبعض ما يودّ مشاطرته مع قرّائه. "أُحاول تقويض المألوف في التاريخ والذاكرة والسياق"، يقول الكاتب والشاعر العراقي في لقائه مع "العربي الجديد".
■ ما الذي يشغلك هذه الأيام؟
- كتابة الرواية، لأنها الأكثر صلاحية لقراءة التاريخ، وللحفر في خفاياه وأسراره وصراعاته. ولأنّي عرفت علاقة هذا التاريخ بالمحنة، اخترت مقاربة سرديّاته، لأنها مباحة ومتعدّدة، وكلّ جماعة تكتب تاريخها على هواها؛ فالحروب والكوارث والصراعات والفتَن لا تحدث فجأةً، بل بسبب وجود "القوى النسقيّة" كما يسمّيها الغذامي، والتي هي ذاتها "القوى السرديّة" التي تحرّك الأحداث، وتمارس عبر التدوين وظيفة التلصّص، والتسلّل، وإشعال الحرائق. وهذه الوظيفة تحوّلت إلى ممارسة أيديولوجية وعصابيّة وحتّى ثوريّة. لذا أدركتُ أنّ الانشغال بهذا المعطى سيجعلني أمام محاولة لتقويض المألوف في التاريخ والذاكرة والسياق، والاندفاع نحو غواية الكتابة، حيث لعبة المغايرة والتلذّذ بالكذب والخديعة والمراوغة، وبسحر العالم وهو عارٍ.
■ ما هو آخر عمل صدر لك وما هو عملك القادم؟
- رواية "مسرّات سود" الصادرة هذا العام عن "دار الشؤون الثقافية" في بغداد، وأكملت رواية أُخرى حملت عنوان "خيانات صاخبة" بطلُها الهامش في شارع "أبي نوّاس"، حيث يتحوّل المكان إلى "ملاذٍ ضدّي"، وحيث يتحوّل حكواتيّو الشارع إلى رُواةٍ لمحنة الحروب والانكسارات والخيبات الوطنية والثورية والجنسية.
■ هل أنت راضٍ عن إنتاجك ولماذا؟
- لا يوجد رضا ولا اطمئنان إزاء ما نكتبه، لأنّي أجد في هذا الرضا قناعاً للموت، ولتعطيل لعبة القلق التي هي جوهر أيّ إبداع. نحن متورّطون بالأسئلة، حيث الجسد والحرّية والتابو، وحيث الاغترابات العميقة، والبحث عن الصيانات. وأحسب أنّ الوقوف عند حافّات تلك الأسئلة هو ما يدفعنا إلى مزيد من القلق، بمعناه الوجودي والنفسي. ولعلّ ذلك يجعلني مسكوناً بهواجس مخاصمةِ ما أنجزتُه، لأنه أضحى من حصّة الآخر والماضي.
■ لو قُيّض لك البدء من جديد، أي مسار كنت ستختار؟
- ليس هناك خيارات محدّدة، والبدايات عادةً تكون صعبة، وتحتاج إلى كثير من المحو. ولأننا نعيش المحنة الأضحوية، فمن الصعب تجاوز تاريخ الرّكام والأثَر، وإعادة النظر بأقدارنا وبداياتنا. وربما سأكرّر ما قاله ماركس عن أنّ العودة إلى الماضي ستكون سخرية، وعندئذ سأختار أن أكون كائناً من كوكب آخر، بلا ذاكرة، ولا جغرافيا ملوّثة، ولا أدلجات معطوبة.
■ ما هو التغيير الذي تنتظره أو تريده في العالم؟
- ربما هو السلام. فبعد تاريخ طويل من الحروب، يكون السلام هو التطهير والصمت والنوم والاحتماء بجسد مَن تُحبّ. لكنّ هذا التغيير الصعب سيصطدم بحواجز تركها الآخرُ المحتلّ، والآخر الاستبداديّ، والآخر الشعبويّ والعصابيّ، لذا نحن نكرّر راهاناتنا الساذجة على الوعي، وعلى الذات الفاعلة لكي تمارس وظيفتها الشاقّة في التغيير والمغايرة، واقتراح رؤىً جديدة، وخرائط جديدة لعالم يمكنه أن يَصْلح لأحلامنا، وتحوّلاتنا التي لا تزيح جنرالاً من مكانه واستبداده.
■ شخصية من الماضي تود لقاءها، ولماذا هي بالذات؟
- أبو العلاء المعرّي، لأنه كان يرى الأعماق، ويُدرك سرّ اللغة في مواجهة العالم، فهي عصاه ودليله. شاغبَ اليقين والسلطة، وتمرَّد على المكان، وعلى القصيدة، وعلى النسَق الحاكم، لكنّه وثِق بالحدس المعرفيِّ الذي قاده إلى الشكّ، ودفعه إلى البحث عمّا بعد البصر، وما بعد المعنى.
■ صديق/ة يخطر على بالك أو كتاب تعود إليه دائماً؟
- من الصعب العودة إلى غابة الوجوه، لأنَّ القراءة ورّطتني في لعبة الطرد والحذف. لذا أجد نفسي لا أملك طاقة التذكّر بجرعات كاملة. ربما أعود إلى أصدقاء تركوا أثراً فارقاً في حياتي، وهي عودة غير آمنة، لأنها ستكون محكومة بوجع نوستالجي. لكنّ العودة إلى الكتاب ستكون هي الأكثر أمناً ولذّةً وتوحّداً: أعود إلى كتاب "الأغاني" لكي أتلذَّذ فقط، بعيداً عن حساب التاريخ، وأعود إلى كتاب "الاستشراق" لإدوارد سعيد لأكرّر اكتشاف تحوُّلِنا إلى ضحايا.
■ ماذا تقرأ الآن؟
- أقرأ الآن كثيراً من الروايات، لكنّي أقرأ أيضاً كتب مذكّرات، لأعود معها إلى فكرة أنّ كتابة التاريخ هي خدعة، لأنّ "المُذكّراتيين" طمروا أسراراً كثيرة، وصنعوا لهم عوالم خاصة وحكايات خاصة، وتركوا لنا "فم التاريخ مفتوحاً"، كما قال الصديق الشاعر عدنان الصائغ.
■ ماذا تسمع الآن وهل تقترح علينا تجربة غنائية أو موسيقية يمكننا أن نشاركك سماعها؟
- رغم انّي أعشق أغاني عبد الوهاب كثيراً، أقترح أن أشاطر أصدقائي الأغاني الخليجيّة، لما فيها من تطريب وإيقاع يحفّز الجسد على الخروج من التأمّل، والإنصات إلى الرقص، والرقص سرٌّ أنثروبولوجي مدهش للجسد ولوجوده، ولعلاقته بالآخر، عبر رمزيَّته وعبر استدعائه.
بطاقة
كاتب وشاعر عراقي من مواليد بغداد عام 1957. من إصداراته الشعرية: "فصول التأويل" (1995)، و"مرايا لسيّدة المطر" (1996)، و"مداهمات متأخّرة" (2001)، و"وجهٌ ضالعٌ بالمرايا" (2007). ومن أعماله الأُخرى: "العائلة الشعرية العراقية" (2006)، و"مراثي المكان السردي في الرواية العراقية" (2007)، و"غابات الماء: أنطولوجيا شعراء البصرة" (2008)، و"الشعرية العراقية: أسئلة ومقترحات" (2010)، و"الدولة والديمقراطية" (2012)، و"سرديات الأثَر البصري" (2019)، و"ما يصنعه السرد، ما تستدعيه القراءة" (2018). صدرت له هذا العام رواية بعنوان "مسرّات سود".