كتبنا في مقال الأسبوع الماضي عن رحلة الأرشيدوق النمساوي رودولف إلى الإسكندرية في مطلع العام 1881م، وفي هذه المقالة سوف نتناول رحلته إلى القاهرة، وتجواله في أحيائها الشعبية والحديثة، وإطلالته على أهم آثارها. ويبدو أن العاصمة المصرية كانت تعيش في ذلك الوقت أزهى مراحلها مع اكتمال الأحياء الحديثة التي بناها الخديوي إسماعيل لكي تكون منافسة في روعتها لأرقى المدن الأوروبية، وهو ما عبر عنه الأرشيدوق رودولف في ثنايا رحلته.
ومع حالة الانبهار التي كانت تشع من حروف رحالتنا "النبيل"، لا بد من الإشارة إلى تأثره بالنظرية العرقية التي كانت سائدة في أوروبا القرن التاسع عشر، والتي استمدت أصولها من النزعة التطورية الاجتماعية المتأثرة بنظرية داروين. ولذلك تجد في تضاعيف أوصافه هذه التقسيمات التعسفية للبشر، وهي تقسيمات تضع ما يسمى العرق الأوروبي في قمة الهرم التطوري، وباقي الأعراق في مراتب أقل، وذلك بحسب ألوان البشرة، حيث كان الأفارقة السود يقبعون في أدنى الهرم التطوري والأوروبيون الشقر في أعلاه.
أرض الفراعنة
ما إن شارف القطار على الوصول إلى القاهرة حتى بدت للأمير النمساوي أهرامات الجيزة، فاعترته مشاعر قوية، إذ رأى بأم عينيه، كما يقول، الدلالات الحضارية ذات العمق السحيق، حيث أرض الفراعنة؛ أهم ركن حجري صامد للحضارة البشرية. بعد ذلك لاحت له قمم جبل المقطم إلى الجنوب كمائدة صحراوية، كما يقول، وعند سفحه جدران القلعة ومآذن مسجد محمد علي، وبين كل هذا تمتد منازل القاهرة كالأمواج المتلاطمة في سديم حار.
يقول الأرشيدوق واصفاً لحظات دخوله إلى القاهرة: "إنها المدينة الرئيسة في أفريقيا، لحظات وسنصل إلى المدينة العريقة، مدينة الخليفة، لقد حفت الحدائق الغناء بالقطار من كلا الجانبين. غابات من النخيل والجميز حول المنازل المنعزلة، وعلى امتداد البصر ظهرت الخضرة الداكنة لمزارع حي شبرا. كان الخديوي يحيط به رجال دولته واقفين على درجات سلم المحطة، واستقبلونا بترحاب شديد. وكان هناك أعضاء الجالية النمساوية - المجرية. صعدنا بعربات مؤثثة بأرقى الأثاث الأوروبي، وعزفت الموسيقى السلام الوطني على شرفنا. لقد عرفنا أن الحياة في القاهرة ساحرة وفاتنة من النظرة الأولى".
ويتابع واصفاً المناظر بانبهار شديد: "انطلقنا في شارع قصير إلى جسر يعبر قناة في شارع شبرا ذي خضرة وظلال، وتتابعت الصور: صورة إثر صورة وكأننا في حلم. زحام بشري، وجمال محملة، وحمير صغيرة، وشرقيون في ملابس زاهية ملونة، ومحلات فتحت جوانب من أبوابها، ومقاه يجلس زبائنها أمامها، وأطفال يتشقلبون فوق التراب وهم يصيحون ويتدافعون بشدة، وفلاحات أصابهن الذهول يحملن جرار الماء فوق رؤوسهن، هربن صارخات بمجرد اقتراب العربات بسرعة".
قصر النزهة
خصص الخديوي إسماعيل للأرشيدوق قصر النزهة مقراً لإقامته هو وحاشيته ومرافقيه، وقد وصفه بالقلعة التي تتكون من مبنيين مربعين يربطهما ممر ذو نوافذ زجاجية ضخمة فوق بوابة المدخل. وقد لفت نظره أن المبنى، وعلى الرغم من أنه مبني وفق الطراز الأوروبي، إلا أن الزينات والمعلقات المبهجة والحمامات الشرقية والكثير من التفاصيل الصغيرة التي لا تحصى، كانت تذكره كيفما التفت بأنه في الشرق، بل في حكايات ألف ليلة وليلة.
في ظهيرة ذلك اليوم، 19 شباط/ فبراير 1881، ذهب الأرشيدوق بصحبة البارون ساورما في رحلة صيد بالكلاب السلوقية، ولكنهم لم يوفقوا فيها لأسباب شتى، ولا يفوته أن يلفت النظر للأوضاع البائسة التي يعيشها الفلاح المصري، حيث شاهد عدداً من الفلاحين يرتدون أسمالاً متواضعة، رغم أن منظرهم يوحي بالقوة، وهم يعملون تحت إمرة خولي يلبس عباءة طويلة ويحمل بيده كرباجاً من جلد وحيد القرن.
القاهرة القديمة
بعد رحلة الصيد، توجه الأمير النمساوي بصحبة صديقه البارون ساورما إلى القاهرة القديمة التي وصفها لنا كما يلي: "هي أكثر المناطق في المدينة قدماً، تقع في الناحية الجنوبية، وكان علينا أن نعبر الجسر ونجوز بالقرب من قصر الخديوي إلى طريق أدى بنا إلى أكثر المتاهات إثارة. يقطن أفقر السكان في مساكن بائسة على وشك الانهيار. لقد انتهى الطريق الذي يمكن أن تقطعه العربة بين الأحجار وأكوام الرمال، وكان علينا أن نغادر العربات بين نخلتين، وأن نتابع مسيرنا على الأقدام. ومن فوق كومة عالية كان أحد جوانبها يمثل بقايا جدار قديم لآخر منازل المدينة متعنا العين بالمنظر الرائع. وفي هذا الموضع تمرح الضباع، وتعوي بنات آوى، وتنبح الكلاب المتوحشة ليلاً. لقد طوقت السحب قرص الشمس بتدرج لوني متباين، بينما هي تغرب في الصحراء الليبية برتقالية اللون، جعلت كل شيء يسبح في بحر من ذهب. والأهرامات ومآذن المدينة، وفتحات حصونها، والقلعة ومنحدرات جبل المقطم الحادة. لقد كانت صورة غاية في الثراء تشكيلاً ولوناً، لا شيء يمكن أن يتصوره المرء أكثر جمالاً من ذلك. إنه منظر غاص بكل ما في الطبيعة، وما في العمارة من بهاء".
قداس في كنيسة الأقباط
في صبيحة اليوم التالي، 20 شباط/ فبراير، وكان يوم أحد، ذهب الأرشيدوق وحاشيته إلى أقدم الأحياء العربية، كما يقول، لحضور قداس في كنيسة قبطية، وكان في انتظارهم بعض رجال الدين بملامحهم الداكنة ولحاهم الطويلة وسحنهم التي تشبه، بشكل واضح، سحن اليهود وعباءاتهم السوداء ذات الثنيات، كما يقول، وفي مقدمتهم أسقفهم. وحول العقيدة القبطية، يقول رحالتنا: "كأي شيء آخر في الشرق بقيت الأعراف والعادات والطقوس والملابس الكهنوتية من دون تغيير. فهم يرتلون القداس كما كان يرتله المسيحيون الأوائل الذين أدخلوا المسيحية من آسيا إلى أفريقيا، ويؤدون الطقوس ويبشرون بالطريقة نفسها التي كان يتبعها أسلافهم. لكن طقوسهم وشعائرهم لا تتفق أبداً مع طقوسنا وشعائرنا في الغرب، وإنما احتفظوا بها كما كانت. ونحن نرى القبط المصريين صورة عقائدية للمسيحية في أيامها الأولى. إن هؤلاء المصريين القبط هم ممثلو عقيدتنا في شمال شرقي أفريقيا، وإن كان أثرهم قد امتد بعيداً داخل القارة السوداء".
ولا ينسى الأرشيدوق أن يصنفهم عرقياً، فهو يراهم من هذه الناحية ينتمون للعرق نفسه الذي ينتمي إليه المصريون الآخرون، ويلفت النظر إلى أنه رغم انتصار الإسلام وكثرة أتباعه إلا أنهم كانوا قادرين على الاحتفاظ بعقيدتهم وتراثهم حتى اليوم. ويضيف: "لقد رأينا بين الكهنة والقسس وغلمان الكورس، الوجوه البنية الداكنة كوجوه الأفارقة الخلص. لقد كان هناك مصلون كثيرون خاصة من القبط، رغم وجود مسيحيين آخرين يتبعون طقوساً كنسية أخرى في الكنيسة البسيطة الفقيرة. وترتدي نسوة الأقباط الملابس الشرقية القديمة مثل المسيحيات في بلاد الشرق، وقد رأينا نسوة كثيرات بعد ذلك يرتدين الملابس ذاتها عند زيارتنا للأماكن المسيحية المقدسة. والنسوة القبطيات محجبات بحجاب أبيض مثلهن في ذلك مثل المسلمات. وبعد تلاوة القداس، استأذنا في الانصراف من ممثلي هذه الهيئة الدينية التي تعد أكثر الهيئات الدينية طرافة بالنسبة لنا، واتخذنا سبيلنا للتجول في الأحياء العربية ومعرفة ما بها".
مسجد الحسين والموسكي وشوارع شبرا
بعد أن يتجول في شوارع القاهرة القديمة يدخل الأرشيدوق إلى مسجد الحسين ويصفه بأنه كبير وجميل وبني إحياء لذكرى الحسن والحسين أولاد الإمام علي زوج ابنة الرسول، كما يقول. ويسرد للقراء قصة استشهاد الحسين في معركة كربلاء عام 680م، ليعود ويتابع وصف المسجد بأنه مزين بشكل ممتاز. قبل أن ينتقل إلى الجامع الأزهر ويروي قصة فتح مصر على يد عمرو بن العاص، وثم تحول القاهرة إلى عاصمة الدولة الفاطمية ومقر خلافة المعز. ويستطرد في وصف الحلاقين الذين يصطفون عند بوابة الأزهر، ويلاحظ أن سمة الجمال الرجولي في ذلك العصر كانت الرأس الحليق. ويلفت النظر للتنوع الكبير في صفوف طلاب الأزهر البالغ عددهم 10 آلاف طالب، حيث رأى جميع الأجناس، من الزنوج السود إلى الشركس الشاحبين، كما يقول.
يصل الأرشيدوق إلى شوارع القاهرة القديمة فيصفها تباعاً، بدءاً بشارع الموسكي، الذي يقول عنه إنه يقدم صورة صادقة للعاصمة الشرقية. حيث بمقدور المرء أن يرى الجماعات التي لا تخطر على بال بمظاهرهم المختلفة وألوانهم المتباينة: "رجال ذوو عمائم وعباءات واسعة غير داكنه تسر الناظرين، وعسكر وبدو، ويهود في أزيائهم التوراتية، وأتراك، وأهل آسيا الصغرى، ويونانيون، وميديون، ومن الشرق الأدنى، وأرمن. أغنياء وفقراء، وفلاحون في ثياب زرق، وفلاحات حملن أطفالهن على صدورهن، ونسوة ثريات يركبن حميراً ويتبعن خصياناً يحرسونهن، وراكبو الجمال والبغال المحملة بالبضائع، والنوبيون داكنو البشرة، والزنوج الخلص، والمواكب الدينية الإسلامية، والدراويش المبروكون، والتجار، والمتسولون الذين بترت أعضاؤهم، والسقاؤون وقد حملوا القرب الجلدية فوق ظهورهم، كل هؤلاء سيتحركون غدواً ورواحاً في فوضى مربكة".
ويقول إن الأسواق تمتد ذات اليمين وذات الشمال في منظر يمثل سوقاً شرقية أصيلة تعرض البضائع في مبان صممت عمارتها لتعطي طابعاً وطنياً أصيلاً. ويشير إلى أن سوق الحمزاوي هو سوق التجار المسيحيين، وسوق العطارة زاخر بالبضائع التونسية والجزائرية، أما سوق الجواهرجية فيقع في الحي اليهودي، وخلفه سوق الصاغة. ويؤكد أن أكثر أسواق القاهرة إثارة وتشويقاً هو سوق خان الخليلي، فلهذا السوق حي خاص به، ويعود تاريخه إلى السلطان المملوكي الأشرف خليل.
بعد هذه الجولة، يتوجه الأرشيدوق لزيارة الخديوي في قصره، وكانت زيارة سريعة تبعتها جولة أخرى في أحياء القاهرة الحديثة التي يسميها "الأحياء الأوروبية ذات الزخارف الشرقية المبهجة بحدائقها وأزهارها الفواحة"، قبل أن يتناول طعامه ليعود إلى زيارة الأهرامات ويقفل عائداً ليمر بحي شبرا الذي يصفه كما يلي: "في حي شبرا وجدنا نشاطاً صاخباً، فثمة من يركبون خيولاً عربية جميلة، وثمة مركبات تسير في صفوف رائحة غادية. إنه منظر ينم عن الحيوية والنشاط والمرح لا يمكن رؤيته إلّا في بلاد الجنوب. وثمة مركبات كبيرة وجميلة على نمط المركبات الأوروبية، لكن خدمها والعاملين عليها يرتدون جميعاً الطرابيش، ويركب المسلمون الأثرياء والباشاوات وأهل الشام واليونانيون الأغنياء مركباتهم لتنسم نسائم المساء الباردة، وقد سعدنا غاية السعادة بركوب "الحناطير" التي يقودها "عربجية" شرقيون. وكان يجلس خلفها "طواشية" سود بملامحهم القاسية، وقد ارتدوا أزياء نصف أوروبية، وداخل هذه المركبات توجد زوجات الموظفين الكبار، وزوجات عدد من الباشاوات، بل وحتى بعض الأميرات، وكلهن يرتدين الملابس البيضاء الشرقية، وتبدو من خمرهن البيض عيونهن السوداء المتألقة، وملامحهن الجميلة، وحواجبهن المزججة على هيئة أنصاف الأقواس، ورموشهن الطويلة".
حديقة الأزبكية
لبى الأمير النمساوي رودولف دعوة العشاء على مائدة الخديوي إسماعيل (الصورة)، الذي اصطحبه بعد العشاء لزيارة حديقة الأزبكية الواسعة، حيث أقامت الجالية النمساوية المجرية مهرجاناً ترحيبياً بهم، فعلقت المصابيح على الأشجار، وأطلقت الألعاب النارية، وأبدى الراقصون والمغنون مهاراتهم في خيام معدة لهذا الغرض، وصدحت الموسيقى العربية، ولعب الحواة بالأفاعي، وأكلوا النيران. ويلفت الأمير الأنظار إلى رواة الملاحم الشعبية، ومسرح العرائس ومختلف الفنون الشعبية المصرية التي استعرضوها أثناء زيارتهم لهذه الحديقة الغناء.
متحف بولاق
زار الأرشيدوق متحف بولاق الذي وصله بعدما عبر جانباً كبيراً من القاهرة الحديثة، ذات الطابع الأوروبي، في الطرف الجنوبي لجزيرة بولاق. ويقول: "يضم هذا المتحف إحدى أثرى المجموعات من الآثار المصرية وأكثرها شهرة، وهو مبنى فسيح الأرجاء جيد التنظيم يضم ما لا يقدر بثمن من كنوز الآثار التي تعود لعصر الفراعنة القديم، ويتولى إدارته فرنسي خلف مارييت باشا الآثاري الشهير الذي وافاه الأجل مؤخراً، ويشغل بروغش باشا، عالم المصريات الشهير، هو الآخر منصباً في هذا المتحف. وقد دلنا على أكثر قطع المجموعات إثارة وأهمية. ووصف متحف بولاق يتطلب استعداداً علمياً فائقاً، بالإضافة إلى أن قطعه كانت موضع دراسة ووصف في كثير من الدراسات صدرت بالفعل. لقد تفحصنا كل شيء بعناية في غرف المتحف، وفي حديقته الصغيرة، وجذبتني كثيراً بعض المومياوات من عصور المسيحية الأولى، فلم أكن أظن قبل رؤيتها أن مومياوات من هذا النوع ما زالت موجودة. لقد ذكرتني بتألقها ومظهرها ذي الزينات الثرية ووجوهها السوداء بالسيدات البيزنطيات. وبعد طول تجوال في المتحف غادرناه إلى مقر إقامتنا".
بعد زيارة المتحف كان موعد الزيارة الرسمية لقصر الخديوي، التي اتسمت بالمراسم الفخمة المعتادة، وقد رد الخديوي هذه الزيارة للأرشيدوق في مقر إقامته، قبل أن يذهب في اليوم التالي برحلة صيد في صحراء المقطم، ليتوجه بعدها إلى مناطق الوجه القبلي.