في الغالب أن البشرية لم تستخدم فِعْل "علّقَ"، وما يدور في أفقه من كلمات واشتقاقات، بالقدر الذي تستخدمه فيه اليوم: من عالم الرياضة إلى وسائل التواصل، مروراً بتعليقات "الخبراء" و"المحلّلين" على شاشات التلفزيون.
ولا تقتصر هذه الظاهرة على جُملة المتخصّصين، بل تشمل عموم المجتمع الذي بات في إمكان أفراده اليوم إبداء رأي في كلّ قضية، وحتى في تلك الموضوعات التي قد لا يفقهون أيّ شيءٍ فيها. أمرٌ يصل إلى مداه في موضوعات مثل الفضائح، والأزمات الكُبرى، أو في ما بات يُعرَف اليوم بـ"التريندز".
عن منشورات "لوب" في باريس، وبالتعاون مع جريدة "لو موند"، صدر حديثاً كتاب "مجتمع التعليق"، للكاتب نيكولا تروونغ، وهو أيضاً صحافي ومدير لقسم "أفكار ونقاش" في الجريدة نفسها.
يتساءل المؤلّف في افتتاح كتابه: هل الرغبة المتزايدة في التعليق تمظهرٌ للمساواة ودمقرطة التعبير عن المواقف والآراء، أَم أنها تماشٍ مع رغبة تجارية تسعى للربح عبر دفع الناس للتعبير عن اندفاعاتهم وردود فعلهم؟ وهو يحاول، طيلة كتابه، الإجابة عن هذا السؤال بتحليل الحالات، التي تنتمي في غالبها إلى المشهد السياسي والثقافي الفرنسي، لكنّ ذلك لا يمنع من أن خلاصات الكتاب يُمكن أن تُطبّق على ثقافات أُخرى.
ويقدّم الكتاب دفاعاً عن المعلومة الصحافية والخبرية، وعن الحقيقة بشكل عام، في وقتٍ باتت فيه آراء السياسيين وبعض "المؤثّرين" على مواقع التواصل الاجتماعي تغطّي أحياناً على الحقائق التي تختفي وراء جماهيرية هؤلاء ووراء الكمّ الكبير من المشاركات والتكرارات لما يقولونه.
ويرى تررونغ أن التعليق بحدّ ذاته جزءٌ من الحياة، باعتباره تأويلاً وتفسيراً لأحداث وأفكار ومسائل نعايشها، إلّا أنه يحذّر من اللحظة التي ينقطع فيها رابطُ التعليق مع الواقع، ليدخل ضمن ما يسمّيه المؤلّف بـ"التعليقية".
والتعليقية (Le commentariat)، كما يعرّفها، "نظامٌ لا يعود فيه التعليق محتاجاً للواقع وأحداثه كي يجد سبباً لوجوده: إنه يعلّق على نفسه، ويكتفي بذاته (...). إنه يتغذّى على نفسه".
ويشير في هذا السياق إلى أن التعليقية تميل إلى اختيار موضوعاتها من وجهة نظر معيّنة، وليس بالضرورة وفقاً لأهمّية هذه الموضوعات في المجتمع؛ بل إنها في بعض الأحيان "تركّب" مواضيعها، بحسب تعبيره. وهو هنا يعطي مثالاً على تركيز وسائل الإعلام الفرنسية، لنهارات وليالٍ، على مسائل متعلّقة بالحجاب، في حين أن البلد يشهد موت أكثر من 700 شخص سنوياً بسبب ما يُعرف بـ"حوادث العمل"، من دون أن تثير هذه القضية أي اهتمام لدى قنوات الأخبار التلفزيونية.