استمع إلى الملخص
- تبدأ الرواية بحادثة جثة الشيخ بحبح كاستعارة لحياة مليئة بالزيف، وتتناول شخصيات معقدة تكشف الفساد والخيانة والازدواجية في المجتمع.
- تتشابك الأحداث كقصص قصيرة لتقديم صورة واقعية وصادمة لمجتمع مليء بالفساد، مما يجعل الرواية سجلًا لتهافت التاريخ وتحديات المجتمع.
بعد "دوائر العميان"، يُصدر الروائي المصري مصطفى موسى عن "دار نوفل- هاشيت أنطوان" رواية "نداء القرنفل" (2024). هو عنوان شاعري رغم أنّنا لا نجد له مقابلاً روائياً، أو حضوراً عضوياً في الرواية. إذا كانت "دوائر العميان" تكاد تشكّل محاولة لعرض تاريخ كامل لتمبوكتو الأفريقية، فإنّ "نداء القرنفل" جرياً على سنّتها، تعرض أحوال المجتمع المصري في حقبة كاملة.
رغم أنّ الرواية تُتابع عوائل في ثلاثة أجيال، فإنّها بخلاف "دوائر العميان" لم تلحظ مراحل من التاريخ: الثورة المصرية وصعود عبد الناصر، وحربي 67 و73، ووفاة عبد الناصر، ومع أنّ هذه الوقائع مدوّنة، فإنها ليست ذات أثر في سياق الرواية، بل تَرد فيها كإطار تاريخي، ودعوة تاريخية لحوادث الرواية وأجوائها.
تبدأ "نداء القرنفل" بحادث يستحق أن يكون عنواناً للرواية. حادث ليست له استمرارية وقد لا يكون أكثر من استعارة. إنّه حشو جثّة الشيخ بحبح، بدعوةٍ دينية، في تجاويف جسده بالقطن الذي يستحضر من مكان لا نلبث أن نفهم أنّه دار دعارة. القطن الذي أُحضر تشي رائحته بذلك. يحمل الفصل عنواناً هو "صلاة الظهر حسب توقيت قرية أم عزّام". العنوان هو أيضاً لا يتّصل بحادثة، وليست له استمرارية. هو الآخر استعارةٌ لا تلبث أن تتكرّر، من حين لآخر، بتبديل بسيط. ليست صلاة الظهر دائمة، إذ تستتبعها صلاة العصر والظهر والليل والقيامة. نحن هنا أيضاً أمام القطنة التي حشت جسد الشيخ بحبح، وأمام هذا التوقيت بالصلوات. لكن الروائي يتبع حياة الشيخ بحبح الذي يقيم خيمة في ولادة السيد البدوي، فإذا هو نصّاب دجّال زانٍ وشاذ.
ركام من الحوادث يحيل الرواية إلى عنقود قصص قصيرة يتتالى فوق بعض
الشيخ بحبح مدخلنا إلى الرواية، إذ إنّه رغم كونه لا يحضر فيها، يكاد يكون استعارتها الكبرى. الرواية، في فصولها وحوادثها وتوالياتها، يصحّ أن تنبع من قطنة الشيخ بحبح ومسار حياته. لن نجد فيها سوى ما يُماثل قطنة الشيخ بحبح الداعرة، ما يُماثل حياته الزائفة الكذوب.
يفتتح مصطفى موسى روايته بما يصحّ أن يكون عنواناً آخر لها، سكّين والد كرم على عنقه. ستكون هذه السكّين ومدلولاتها ورمزيتها على أعناق شخصيات الرواية، التي تُشكّل في ما بينها مجتمعاً كاملاً؛ شخصيات تتداخل وتتفاعل في علاقات لا تلبث جميعها أن تشي بانقلابها وبوارها، وبما تخفيه من أضدادٍ وفضائح وخيانات، بحيث إنّ مجتمعاً على هذه الشاكلة يبدو مبنياً ومشكّلاً من أكاذيب ودعاوى زائفة.
الفصل الثالث يتكلّم عن خديجة، وهي تحمل أولاد أخيها المتوفّى إلى ميتمٍ، خفية عن والدتهم، التي تهمُّ بزواجٍ ثان. الزوج الثاني مفيد يرعى ولديها، ويكون لهم أباً حقيقياً، لكن هذه الإيجابية النادرة في الرواية لها ما يُناقضها. إنّه فساده في وظيفته، فسادٌ لا يلبث أن ينكشف ويؤدّي به إلى السجن. نحن حتى الآن لا نزال في العادي والمألوف، إلى أن نصادف حدثاً رهيباً، واغتصاب جثّة، يؤدّي بصاحبها بعد أن ينكشف إلى السجن بتهمة "فسق بجثّة". لكنّنا سنعثر، مقابل ذلك وبعيداً عنه، على حدث حقيقي هو استقالة الرئيس عبد الناصر بعد هزيمة 1967 أمام "إسرائيل".
نحن هكذا أمام ركام من الحوادث، يتتالى بعضها فوق بعض، بحيث إنّها في توالدها داخل الرواية، تكاد تحيلها إلى عنقود قصص قصيرة، هي في مجموعها وتعقّبها تُشكّل مجتمعاً كاملاً، بل الحوادث نفسها، واحدة تلو أُخرى هي في أكثرها حافلةٌ بالفساد والتناقض والفضيحة. هكذا نعثر على شخصيّات زائفة لا يلبث زيفها أن ينكشف. مجموعات من نصّابين يتظاهرون بالحبّ سعياً إلى توريط الآخرين بجنايات، زيجات باطلة وعائلات مضطربة وفسق معلن.
الرجل الذي يصطحب فتاة من معارفه في سيارته يدسّ يده بين فخذيها، أبناء عاقّون، أزواج خونة، فاسدون من كلّ صنف، رغم ذلك لا نشعر أنّ الروائي يبالغ، أو يلفّق قصصاً. نشعر أنّه يروي، وأنّه يؤلف من رواياته واقعاً حقيقياً، وأنّ المجتمع الذي يؤلّفه يتكوّن من حقائق دامغة، حقيقتها هي التي تُظهرها على هذه الدرجة من الافتضاح والصدم. إنّ الفن الروائي هنا هو كما ينبغي أن تكون الرواية، سجلُّ تهافت وانقلاب في التاريخ وواقعٌ سفلي.
* شاعر وروائي من لبنان