موتٌ بلا ذنب

09 سبتمبر 2024
عمل للفنان الفلسطيني عبد الناصر عامر
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- **صباح السابع من أكتوبر**: كان يوماً مختلفاً تماماً، حيث عشتُ تسعة أشهر من الألم والخيبات، مع استهدافات عشوائية وانقطاع تام للإنترنت والكهرباء وشحّ في السلع الأساسية.

- **التهجير والمجازر**: في اليوم السادس من الحرب، اضطررنا للعيش في مستشفى الشفاء وسط الشهداء والأشلاء، ثم النزوح نحو الجنوب حيث واجهنا ظروفاً قاسية ومجاعة شديدة في خانيونس ورفح.

- **النزوح المستمر وفقدان الأمل**: بعد خمسة أشهر من النزوح، تزايدت التهديدات باقتحام رفح، مما أجبرنا على النزوح مجدداً، حيث نعيش الآن في مدرسة إيواء بظروف قاسية ومجاعة مستمرة.

كان من المفترض أن أستيقظَ على يومٍ جديد، يومٌ أنبذه بوصفه يوماً عادياً ليس إلا مجرّد روتين مُعتاد. لم أكن أعلم أن صباح السابع من أكتوبر (تشرين الأول) سيكون بمثابة سنةٍ ضوئية. كان صباحاً مختلفاً، لم يستطع أن يُشبِع فينا وهماً.

كيف لا، وقد اعتدنا طوال العمر خيبات القهر والانهيار؟ بعد تسعةِ أشهرٍ من هذا الكابوس، ما زلتُ لا أدري، كيف ومتى بات ذاك اليوم الجديد ذكرى قديمة لا يمكن أن تُعاد! لم تشرق شمس الثامن من أكتوبر حتى الآن.. لم أستيقظ بعد، بل لم أستيقظ قط! نِلتُ من الألم ما يكفي لتخديرِ ألفِ قلب.

كانت البداية مألوفةً، فهذه ليست المرّة الأولى في الحرب، أربعةٌ وعشرون عاماً من العمر قُسِّمت على ستة حروبٍ سابقة ما بين تصعيدٍ وعُدوان، بدايةٌ امتدّت خمسة أيام فقط، قبل أن أواجه ما لم يكن بالحُسبان! كانت الأيام الخمسة الأوائل من الحرب أشدّ علينا من كل تلك الحروب، استهدافات عشوائية في كلّ مكان، انقطاع تام للإنترنت والكهرباء، وشحّ مفاجئ لكل السلع وأساسيات الحياة.

في كل صباحٍ من هذه الإبادة يُولد فينا إنسان، ولادة قيصرية مُرّة، فيها من الألم ما يكفي للموت ألف مرة

كانت أصوات الانفجارات مرعبة وكأنها تُسمع لأول مرة، رغم حصول أغلب سكان قطاع غزّة على درجة الماجستير في التعرّف على أنواع القنابل الملقاة فوق رؤوسهم، إلا أن هذه المرة كان العدو وحشاً، استعمل لقتلنا ما هو أشد فظاعةً وفتكاً.

أما في اليوم السادسِ من الحرب، فقد واجهتُ فاجعة التهجير لأول مرة، حين تضطر إلى أن تترك كلّ ما تملك كي تملك فقط نفسك، لم أعتد هذا الشعور المريب، كيف يُمكن للروح أن تسكن في مكانٍ غريب؟ ويا ليته كان مكاناً، بل كان مقبرةً جماعيةً تُدعى مستشفى الشفاء!

مكثنا في المستشفى قرابةَ الشهر، وكانت هذه المدة كفيلةً بقتل كل مشاعرنا الإنسانية. أتدرك معنى أن تحيا كل يومٍ وسط العشرات من الشهداء والأشلاء.

أن تفزع من صراخ الأمهات وتبكي على قهر الآباء! أن يغفو طفلٌ مصابٌ في حضن أمّي، بعد أن فقد كلّ عائلته ولم يبق له أحدٌ في الحياة، أن تُقصَف مرافق المستشفى فوق رأسك وتنجو أكثر من مرة بصعوبة!

كانت المجازر لا تتوقف، وظلَّ هذا السؤال يرادوني.. 'لو كانت المجزرة الواحدة تزيدنا من العمر بضعةَ أعوام، فأي شيخوخةٍ بإمكانها احتواؤنا الآن؟!'

لا يوجد إدراك إلا لحقيقةٍ واحدة؛ حقيقة أننا كلنا شهداء، حتى لو بقينا أحياء

لم أجد إجابةً، باتت كل الأحرف عالقةً في السماء. ولا يوجد إدراك إلا لحقيقةٍ واحدة؛ حقيقة أننا كلنا شهداء، حتى لو بقينا أحياء.

في اليوم الرابع والثلاثين، ذاك اليوم المشؤوم، حين استيقظنا على إخلاء المستشفى والنزوح نحو الجنوب، حيث كانت الجثث ملقاةً على الأرض لا تجد من يغطيها ولا من يدفنها، وكأنها أهوال يوم القيامة. صراطٌ يحتوي سبعين ألف إنسان سيراً على الأقدام مسافة أربعة عشر كيلومتراً تحت أشعة الشمس الساطعة، رفعنا الرايات البيضاء والبطاقات الشخصية أثناء عبورنا الحواجز العسكرية، لم يكن بإمكاننا الالتفات أو الحديث، حتى وصلنا برّ الأمان الكاذب.

مكثنا في مدينة خانيونس خمسةً وعشرين يوماً فقط، حتى أصبحت المدينةُ منطقةَ قتالٍ خطرة، وبات الغرق هذه المرة في البر لا في البحر.

بالمناسبة، كانت فترة النزوح في خانيونس هي الأشدّ مجاعةً، خسرتُ من الوزن ما يقرب العشرين كيلوغراماً، تبدلت فيها الملامح واختلف الجسد، لم يبق مني سوى روح مُنهكة من شدةِ التعب.

إلى أقصى الجنوب، حيث مدينة رفح؛ المهرب الأخير، في مدرسة إيواء، من الخيام التي لا حول لها ولا قوة أمام الأمطار، وبين الأمراض. 

بعد مرور خمسة أشهر على كابوس النزوح هذا الذي لم ينته حتى الآن. تتزايد التهديدات باقتحام رفح، وفيها من النازحين والسكان قرابة المليون، بعد ممارسة كل أشكال الإبادة الجماعية بحقنا نحن الآن أمام خيارين لا ثالث لهما؛ إما نزوح نحو المجهول للمرة الخامسة، وإما نهاية حقيقية لهذه الحياة البائسة.

في أحد الأيام، وفي محاولة يائسةٍ للحصول على خبر جيد، حلَّ الوجعُ الأكبر، لم يبق شيء. خسرنا بيتنا في غزة هناك في الشمال. فالأمل الوحيد قد أُعدِم وتم حرقه. لم يعد هناك بيتٌ أو حتى حديقة. حين غادرته مُجبراً لم أستطع أخذ شيءٍ معي، لم أكن أدرك أنه الوداع الأخير، وأن كل شيءٍ تركته هناك.. قد بات ذكرى.

كم مرةً يجب أن نبدأ من جديد؟ ألم يكتفِ القاع منا؟ ألا يحق لنا ملامسة السماء؟ ضاعَ ماضينا وبُعثِرت ذكرياتنا، دُمِّر حاضرنا وأُعدمت أحلامنا، عشنا من الذل ما يكفي لتمني الموت وأكثر، كان القهرُ يقتل فينا ما لا يمكن لسلاحٍ أن يفعل إلى أن بات في داخلي حقدٌ لا يُعد ولا يُحصى، لا عزاء لي، ولا يُمكن أبداً أن أُشفى.

بعد فشل كل المفاوضات التي بلا معنى، وبعد أن التهم اليأس كل ما تبقى من أنقاض الأمل، نجد أنفسنا نترك رفح ولا نعلم أي مقبرةٍ الآن بإمكانها احتواء كل هذا الألم. ننزح للمرة الخامسة في هذه الحرب المستمرة منذ مئتين وخمسة عشر دهراً، بعد أن مكثنا في خيام رفح مئةً وخمسة وخمسين قهراً! نعود إلى خانيونس، بعد أن أصبحت صحراء قاحلة، وكأن قنبلةً نووية قد أُسقِطت عليها! يا لهول الدمار.. كيف يمكن لعقلٍ بشريٍّ أن يدركه!

ها نحنُ الآن في مدرسة إيواءٍ أخرى، لكن هذه المرة في صفٍّ دراسي لا خيمة، أي وكأننا قد نلنا ترقيةً لعينة! وكحال كل الأيام الماضية، لا يتوفر أدنى مقومات الحياة، عادت المجاعة لتفترس ما تبقى من أجسادنا الهزيلة، أصبحنا غرباءَ حتى على أنفسنا، لم تعد المرآةُ صالحةً للاستخدام، ففي كل صباحٍ من هذه الإبادة يُولد فينا إنسان، ولادةٌ قيصريةٌ مُرَّة، فيها من الألم ما يكفي للموتِ ألف مَرة.

أما عن الحقيقة المؤسفة بعد كل هذا، فلا يُمكن أن نُشفى بتاتاً.

* كاتب من غزّة

نصوص
التحديثات الحية
المساهمون