مسوَّدةُ بورخيس

02 ابريل 2022
رضا درخشاني/ إيران (جزء من لوحة)
+ الخط -

يتداول المشتغلون بتحقيق التراث الكتابيِّ العربي اصطلاحاتٍ كثيرةً تَدخل ضمن تخصُّصهم؛ ليكونوا في عنايتهم بمجال عملهم، على غرار المهتمّين والمشتغلين بباقي العلوم والفنون والحِرف، قد ابتكروا اصطلاحات كثيرةً خاصّة بهم، تُسهِّل لهم التفاهم بيُسْر، من بينها الأصل والنسخة، والمُبَيَّضَةُ والمُسَوَّدة، وغيرهما.

والمعروف، في عِلم التحقيق، أن النصّ الأصْلَ هو الذي يَخطُّه المؤلِّف بيده، أو هو النصُّ الذي يوقِّعُه المؤلِّف نفسُهُ، ليُبدي إجازَته إيّاه كي يُتداوَل بين القُرّاء، بعد أن يكونَ أحدُ النُّساخ قد نقله عن الأصْلِ، فيكون في مرتبة أصله وبقيمته. أمّا النسخة، فهي التي تُنقَل عن الأصل في غيبة المؤلِّف، إمّا بسبب البُعد، وإمّا بسبب وفاته، أو عن أحدِ تلامذته، أو عن نسخة أخرى فحسب.

والعجيب أنَّ الاصطلاحَيْن أعلاه نفسيْهما يُتداوَلان في مجال الترجمة. فعلى منوال عِلم التحقيق، يُتداوَل في مجال الترجمة مصطلح الأصل، ليَدُلّ على النَّص المُعتمَد في الترجمة، ويُعرَّف بنصّ الانطلاق، أمّا مصطلح النُّسخة، فيحمل فيها معنى مختلفًا، لكونه يُفِيد النّص المترجَم.

وإذا كان مصطلح المُبَيَّضة يَعني، في عِلم التحقيق، النَّص الذي انتهى المؤلِّف من صياغته، ليُجيزُ إذاعتَه في الناس، بعدما يكون قد نقّحه وصحّحه، اعتمادًا على مُسوَّدات، فإنّ مصطلح المُسَوَّدة، يعني بدوره نُسخةَ المؤلِّف التي تكون سابقة على المُبيَّضة، أي الأصل، لكونها تكوْن مليئةً بالشطب والإحالات والتصويبات؛ هكذا تكون المُسوَّدةُ طريقًا إلى المُبيَّضة، أي إلى النسخة النهائية للكتاب، وبذلك تكون المُسوَّدة سابقة زمنيًّا على المُبيَّضة في عِلم التحقيق.

ونظرًا لأنّ الترجمة إعادةُ كتابة، ولأنّ قضاياها من قضايا الأدب، فلا غرابة في أن نعثر على وشائجَ أو أصداء لهذا الاشتباك والتَّصادي بين المجالَيْن اللذَيْن نحن بصددهما.

تكتشف الترجمة في النصّ الأصلي ما لم يخطر على بال مؤلّفه

لقد لفت انتباهي، وأنا أُعيد قراءة قصّة خورخي لويس بورخيس الشهيرة، بييرْ مِنَارْ، مؤلِّفُ الكيخوته، ذلك العملُ الملحميّ الذي أنجزه پْيِيرْ مِنَارْ، الذي "لم يُفكّر أبدًا في أن يستنسخ الأصل آليًّا؛ ولم يقصد نسخه. لقد تمثَّل طموحه الرائع في أن يُنتج صفحات تتطابق كلمةً كلمة، وسطرًا فسطرًا، مع كتاب الكيخوته لميغل دي سرفانْتِس".

فعلًا، وجدتُني أمام هذه الجُمل أتساءلُ إن كان بوُسعنا النّظرُ إلى الترجمة بصفتها مُسوَّدة للأصل؟ فمنطوق النصّ صريح، وفيه اعتراف صارخ بأنّ كتاب "الكيخوته" سابق زمنيًّا على نص بييرْ مِنَارْ، لكنّ الراسخ لدى الأخير هو طموحٌ مُدهِش، يرومُ صاحبُه أنْ يتحاشى استنساخ الأصل، أي أن يكون نصُّه مُسوَّدة، بل إنه يطمح إلى أنْ يغدو أصلًا آخَر، أو بالأحرى نظيرًا وقرينًا مستقلًّا بذاته، لمعرفته بأن إنتاجَه لنصّ إبداعيّ مطابق لـ"الكيخوته" حرفيًّا، في لغة أخرى، لا يستلزم بالضرورة أن يكون نسخة لعمل سرفانتس.

وسيُخطئ مَن قد يعتقد أنّ هذا التصور عند بورخيس كان مجرّد نزوة، فقد تناول موضوع المُسوَّدة في نصوص منها نص "إِڤارِيسْتُو كارّيِيغُو"، وفيه يذكر أنّ إڤاريسْتُو "كان يكتب قليلًا، مِمّا يُفيد أنّ مُسوَّداته كانتْ شِفاهية"، ليُواصل إقناع قارئه بطوباوية الأصل، وأنْ لا وجود في الواقع إلّا للمُسوّدات، وهو ما يتأكَّد في نصّ آخر وردَ ضمن مقالته "الترجمات الهوميرية" (1932)، المضمَّنة في كتابه "نقاشات".

انتبهَ بورخيس في "الترجمات الهوميرية" إلى النِدّية التي تطبع علاقة النصّ المترجَم، أي المُسوَّدة، بالنصّ المنقول الذي يُعرَف بالأصل، ونبّه إلى أن لا فرق بينهما، سوى السّبق الزمني، وليس التَّراتُبيَّ، لأنّ المعروف في الكتابة هو أن المسوَّدة تتقدَّم على الأصلَ في الزمن، عكسَ الترجمةِ، أي إعادةِ الكتابة التي تَلِي أصْلَها. يقول بورخيس في هذا الصدد: "إن افتراض كلِّ إعادةِ تركيبٍ لعناصر هو بالضرورة أدنى من ترتيب سابق، معناه افتراض أن المسودة 9 هي بالضرورة أدنى من المسوّدة H، بحيث لا وجود إلّا لمُسوَّدات فقط. لا يتوافق مفهوم النصّ النهائي إلّا مع الخرافات أو التعب".

ويتهيّأ لي أنّ ما تحاشى بورخيسُ قولَه - حتى لا يُتَّهم بالغلوّ - هو التصريح بأنّه لا وجودَ في مضمار الترجمة إلّا للمُسوَّدات، بلْ إن ما نُسمّيه مُسوَّدةً هو في الوقائع أصلٌ قادم من المُستقبَل، وأن وجودَه لاحقًا يجعلُه أفْضلَ وأجمل؛ ألم يَقُل بورخيس نفسُه إن الترجمة تكتشف في الأصل ما لا يخطر على بال مؤلِّفه، وأنها تتفوَّق على نصّه وترتقي به وتُرَقّيه؟


* مترجم وأكاديمي من المغرب

موقف
التحديثات الحية
المساهمون