استمع إلى الملخص
- **القهوة والهويات الثقافية**: تشكلت هويات متعددة للقهوة مثل "القهوة العربية" و"مقاهي فيينا". أصبحت القهوة التركية رمزاً قومياً وأدرجتها اليونسكو في قائمة التراث الإنساني غير المادي، وكذلك "القهوة العربية" في 2015.
- **القهوة في اليونان**: بعد استقلال اليونان، حمل المسيحيون الأناضوليون تقاليد القهوة التركية، مما أدى إلى تشكل هوية جديدة للقهوة اليونانية، التي أصبحت جزءاً من الهوية الوطنية.
عُرفت القهوة في اليمن منذ القرن الخامس عشر، وانتقلت بالتدريج إلى الحجاز مع الحُجّاج، ومنها إلى بلاد الشام ومصر ثمّ إلى أوروبا. وفي ما يتعلّق بـ المقاهي الأُولى، لدينا وثيقةٌ مهمّة تتمثّل في مَحضر رفعه ناظر الحسبة في مكّة إلى السلطان المملوكي قانصوه الغوري، في السابع من ربيع الأوّل 917 للهجرة/ 1511 للميلاد، يتضمّن الشكوى من أنّ شراب القهوة "صار يُباع على هيئة الخمّارات"، نظراً إلى أنّ القهوة من أسماء الخمر، وأصبحت الأكواب تُدار في المقاهي كما في الحانات.
ومن مكّة وصلت القهوة والمقاهي حوالي 1535 تقريباً إلى مركزَين مهمّين: القاهرة ودمشق. أمّا ما يخص الثانية، فيُخبرنا المؤرّخ الدمشقي المُعاصر للأحداث محمد بن طولون (توفي عام 1545) عن قدوم قاضي مكّة وشيخ الحَرم ابن الضياء (توفي عام 1534) في زيارة إلى دمشق، ومشاركته في الاحتفال بعيد المولد النبوي عند الشيخ علي الكيزاوي، حيث شرب هناك مع الجماعة "القهوة المتّخذة من البُنّ" التي "لا أعلم أنّها شُربت في بلدنا قبل ذلك". ولمّا جاء فقيهُ الحجاز محمد بن عراق إلى دمشق عام 1539، أشار ابن طولون إلى أنّه "أشهر شُرْب القهوة وكثرت يومئذ حوانيتُها"، ليدلّ بذلك على الاسم الجديد الذي أُطلق على المقاهي: "حوانيت القهوة"، ثمّ "بيوت القهوة" بعد ذلك.
أمّا ما يخص القاهرة، فيُشير المؤرّخ المصري القريب من الأحداث أحمد جلبي بن عبد الغني (توفي عام 1737)، في كتابه "أوضح الإشارات فيمَن ولي مصر من الوزراء والباشات"، عن قدوم الوالي الجديد خسرو باشا الذي حكم مصر بين عامَي 1534 و1536، إلى أنّه "في زمنه فشَتِ القهوةُ والمقاهي".
وقد استمرّ تمدُّد القهوة والمقاهي من دمشق نحو الشمال؛ إلى حلب أوّلاً ثم إلى إسطنبول التي افتتح فيها شمس الدمشقي وحكَم الحلبي مقهى في محلّة "تحت القلعة" عام 1554، لتنتشر فيها المقاهي بعد ذلك. ومن إسطنبول تمدّدت القهوة والمقاهي شمالاً وغرباً لتشمل سالونيك وبلغراد وسراييفو وغيرها، وتتابع طريقها شمالاً وغرباً في أوروبا ومنها إلى أميركا.
القهوة والهويات الجديدة
مع انتشار القهوة عبر القارّات تشكّلت مع الزمن هويات متعدّدة للقهوة والمقاهي من مضارب البدو؛ حيث تُدار فيها "القهوة العربية" في المناسبات الاجتماعية المختلفة إلى "مقاهي فيينا" التي انتشرت في أوروبا وحتى في الشرق الأوسط نموذجاً للتمتّع بالقهوة في جو باذخ يليق بمحبّي القهوة.
ونظراً إلى أنّ القهوة انتشرت من إسطنبول إلى البلقان ومنه إلى أوروبا الوسطى والغربية، شاعت هوية جديدة للقهوة (القهوة التركية) التي كانت تعني القهوة التي شاعت في أرجاء الدولة العثمانية ثمّ أصبحت مع إلغاء السلطنة وإعلان الجمهورية التركية رمزاً للهوية القومية التي تنامت في العقود الأخيرة مع التوتّرات مع الدول المنبثقة عن الدولة العثمانية (اليونان وغيرها)، حتّى إنّ تركيا نجحت، عام 2013، في تسويق "القهوة التركية" في قائمة التراث الإنساني غير المادي التي تعتمدها "يونسكو". وقد دفع هذا بلدان الخليج (السعودية وقطر والإمارات وعمان) إلى تقديم ملفّ لاعتماد "القهوة العربية" في قائمة التراث الإنساني غير المادي، وهو ما وافقت عليه "يونسكو" في الرابع من كانون الأوّل/ ديسمبر 2015.
وفي هذا السياق، يُشار إلى أن "القهوة البوسنوية" أصبحت أيضاً رمزاً للشعب البُشناقي الذي كانت وما زالت هويته مهدَّدة من دول الجوار. وفي هذه الحالة، لم تعُد القهوة مجرّد مشروب، بل تُمثّل في طقوس تحضيرها وتقديمها ثقافةً متميّزة تجمع الأهل والأقارب في البيوت والأصدقاء في المقاهي للدردشة والنقاش حول مختلف الأمور.
ومع وصول القهوة وانتشار المقاهي في أميركا الشمالية ابتداء من النصف الثاني من القرن السابع عشر، برزت في الولايات المتّحدة "القهوة الأميركية" التي شاعت في أوروبا والعالم، وأصبح يمكن أن تجدها في أيّ مطار. ولكن يلاحَظ في الولايات المتّحدة في السنوات الأخيرة بروز "القهوة اليمنية" وانتشارها عبر شركات تفتتح فروعاً لها في عدّة ولايات وتُقدّمها في نمط مختلف من المقاهي التي تُقدّم معها بعض الحلويات اليمنية التقليدية وغيرها، لتُذكّر العالم بالبلد الذي انطلقت منه القهوة بنوعيها (القهوة القشرية والقهوة العادية) في القرن الخامس عشر في وقت يعاني فيه اليمن ما يعانيه.
في جزيرة باروس
بقيت اليونان حتى استقلالها عن الدولة العثمانية في 1830 منحصرة في الجنوب، ثمّ توسّعت كثيراً بعد حرب البلقان (1912 - 1913) في الولايات العثمانية (سالونيك ويانينا) التي كانت فيها تقاليد راسخة للقهوة والمقاهي، ثم جاء اليونان نتيجةً للحرب مع تركيا الكمالية ومعاهدة لوزان عام 1923 حوالي مليون ونصف من مسيحيّي الأناضول الذين حملوا معهم تقاليد القهوة التركية، لتتشكّل مع الزمن هوية جديدة مع العداء المتزايد بين اليونان وتركيا: القهوة اليونانية.
في تسويق نفسها مقصداً سياحياً لم تعُد "السَّلَطة اليونانية" و"الجُبنة اليونانية" و"المصقّعة اليونانية" وغيرها فقط ما يرحّب بضيوف اليونان، بل برزت أيضاً "القهوة اليونانية" التي تُحضَّر وتقدَّم بطقوس خاصّة في مقاه اكتسبت أيضاً هوية خاصّة تُميّزها من غيرها. ويلاحَظ هنا أنّ اليونان انضمّت مع الزمن إلى مجموعة الدول الـ15 الأكثر استهلاكاً للقهوة في العالم بمعدّل 5.5 كغ للفرد سنوياً، مع أنّ العقود الأخيرة للأوربة والعولمة أخذت تُبرز تأثيرها على ذلك.
وفي الواقع، كان التركيز على الهوية اليونانية (بما في ذلك "القهوة اليونانية") يتزايد خلال التوتّرات مع تركيا خلال 1956 - 1960، التي أدّت إلى ترحيل ما بقي من يونانيّين في إسطنبول وجوارها، والذين بقوا هناك بحسب معاهدة لوزان، ثمّ في قبرص وصولاً إلى الاجتياح التركي لشمال الجزيرة عام 1973 والمناكفات المستمرّة بين البلدين.
وبعد انقطاع أكثر من ثلاثين سنة، غطستُ في اليونان مرّةً أُخرى، في أثينا وجزيرة باروس Paros في جنوب بحر إيجة لأكتشف الفرق مع شمال شرق اليونان (سالونيك وقوله وغيرها) الذي كنتُ أعرفه. ففي أثينا تبدو مظاهر الأوربة (منذ أن انضمّت اليونان إلى الاتحاد الأوروبي) والعولمة في شوارعها الرئيسية، بينما لا تزال العراقة اليونانية حاضرة في الحيّ الأقدم المجاور للأكروبوليس (بلاكا) التي تجد فيها الشكل اليوناني التقليدي للمطاعم والمقاهي.
ولكنّ هذه الصورة تغيّرت في جزيرة باروس Paros التي أصبحت مقصداً سياحياً يفوق البنية التحتية فيها، التي تجذب الكثير من السيّاح الأوروبيّين والأميركيّين للتمتّع بالمياه الدافئة والمنتجعات والقرى اليونانية التي يوحّدها النمط الجميل من البيوت المطلية باللون الأبيض وأبوابها ونوافذها الزرقاء الجميلة. في هذه القرى السياحية، لا تزال المقاهي ذات الطابع التقليدي تُقدّم "القهوة اليونانية"، ولكنها مستعدّة أيضاً لتقديم كلّ ما يريده الأوروبيون والأميركيون.
كانت المقاهي اليونانية، حتى نهاية القرن العشرين، ذات طابع ذكوري يحتشد فيها الشباب والكبار للدردشة والنقاش حول الأمور المختلفة، بينما أصبحت "الكوفي شوب" الحديثة تجذب إليها الفتيات أيضاً. ويلاحَظ هنا أنّ اسم المقهى التقليدي لا يزال يحتفظ بأصله العربي "كافِنيو" Kafeneo، ولكنّه يُعبّر أيضاً عن ثقافة المكان، ومن ذلك "مقهى مريم" في قرية ليفكِس Lekes السياحية، التي كانت عاصمة الجزيرة في القرون الوسطى، وهو يواجه كنيسة "الثالوث المقدّس" العريقة التي كانت في الأصل معبداً بيزنطياً، وصادَف وجودنا فيها الاحتفالاتِ بيوم انتقال السيّدة مريم العذراء في 15 آب/ أغسطس من كلّ عام.
* كاتب وأكاديمي كوسوفي سوري