في رثاء مكتبة

22 اغسطس 2024
عمل للفنان الفلسطيني عابد عبدي
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- الشاب النحيف يعشق جمع الكتب من القاهرة ويعود إلى غزة محملًا بها، رغم علمه بأن الحرب قد تدمر حلمه.
- خلال الحروب الخمس منذ 2008، كان يضطر للنزوح من بيته، محاولًا إنقاذ كتبه العشرين ألف، مترددًا بين الكتب العزيزة على قلبه.
- بعد تدمير بيته، حاول إنقاذ ما يمكن من الكتب مع صديقه، لكن المطر والقصف أتلفا الكثير منها، ووجد عزاءه في العلم الذي حفظه.

لا شيء يشبه ذلك الشاب الذي يتلذذ بأن يحمل على أكتافه عشرات الكيلوات من الورق، صحيحٌ أنه نحيف، وأن بدنه نحيل، غير أنه إذا وصل إلى القاهرة، وأنفق فيها آلاف الدولارات في سبيل جمع الكتب، كأن الله يعطيه من الطاقة ما يتوزّع في عشرة من الرجال غيره.

مثل كلّ سنة يقضى شهره المفضل من الصيف حول جنبات الجامع الأزهر، حيث الشوارع –خصوصًا درب الأتراك- تعجّ بما لذ وطاب من المكتبات، عشرة كتب يشتريها من هذه المكتبة القديمة، وعشرة كتب من تلك الحديثة، وعشرون كتابًا يهديها له مؤلفوها مع كتابة إهداءاتهم له في الجزء الفارغ من أول ورقة.

حتى إذا اجتمعت له حديقة غناء من تلك الطيبات من الكتب حَزَمَها في شنط السفر بدلًا من ملابسه، يحملها من القاهرة إلى حيث يسكن في شمال غزّة، لا شيء يعدل تلك الفرحة التي يعيشها حينما يعود من سفره، فلا ينام قبل أن يضع كل كتاب في مكانه، بعد أن يشمه ويقبِّله ويعطيه حقه من حواسه الخمس.

لم يكن يعلم أن الغول ستأتي يومًا متفنِّنةً في نسف ذلك الحلم الذي كرس له نفائس أوقاته

من كثرة ولعه بها، كان يخترع طرقًا كثيرة لترتيبها، تارة يضع كل الكتب أرضًا ويرتبها حسب وفاة المؤلف، وتارة يرتبها حسب موضوع الكتاب، لكنه لا ينسى ذلك اليوم الذي رجع فيه من العمل فوجد أمه قد رتبت الكتب حسب لونها، الكتب الحُمر في أرفف، والكتب الخُضر في أرفف، والكتب الكحلية في أرفف!

لم يكن يعلم أن الغول ستأتي يومًا متفنِّنةً في نسف ذلك الحلم الذي كرس له نفائس أوقاته، ومختلف طاقاته، ولكنه يعلم أن العلم الذي في الكتب قد أودعه الله في صدره صافيًا نقيًّا عذبًا زُلالًا، غير أنه شخص يألف مقتنياته كأنها هو وكأنه هي، كان يرى فيها أولادًا بررة، وأصدقاء مخلصين، وأهلًا فيهم من الحُنُوِّ ما تضيق الحروف عن وصفه.

كغيره من الناس، تُجبره الحرب على النزوح من بيته ذي المكان الخطير في شمال القطاع، إلى مكان يُظَنُّ أنه أكثر أمنًا، مع أنه على قناعة كبيرة أن غزة كلها شيء واحد، ولكن جرت العادة خلال الحروب الخمس التي عاشها منذ عام 2008 أن يضع بجانبه الأشياء المهمة والضرورية، حتى إذا دقت ساعة الصفر، حملها معه وترك مكانه!

هو يدرك تمامًا في قرارة نفسه أن العشرين ألف كتاب هي أعز ما يملك، بل ربما يعُدُّها أحب إليه من نفسه التي بين جنبيه، ولكن هل تطيق حقيبته أن تحمل هذه الجنة من الكتب، أم هو مضطر إلى أن يفاضل بينها ليأخذ معه أعزَّها، ولكن مهما يكن من أمر، ما نسبة عشرة كتب من بين عشرين ألفًا، وعلى فرض أن اختار الكتب العشرة المبشرة بالنجاة فهل يُكتب له هو نفسه النجاة أصلًا!

على فرض أن اختار الكتب العشرة المبشرة بالنجاة فهل يُكتب له هو نفسه النجاة أصلًا!

ساعات طويلة قضاها ذلك المسكين وهو يحاول أن يعدل في اختياراته، فلا يظلم كتابًا على حساب كتاب، هل يأخذ معه (كتاب سيبويه)؛ قرآن النحو الذي اشتراه وهو في السنة الثانية من الجامعة، بعد أن كان ثمنه أربعة أضعاف ما يملك من مصروف المواصلات، فدفع ما يملك ووضع عند صاحب المكتبة حقيبته وهويته الشخصية رهنًا، وقضى ثلاثة أسابيع يقطع المسافة مشيًا من بيت لاهيا إلى الجامعة وسط غزة، حتى أتم ثمن الكتاب، أم يأخذ معه (كتاب همع الهوامع) الذي أهداه له والده بعد حصوله على الامتياز في شهادة الثانوية العامة، ثم يقدر الله أن تكون رسالته الماجستير في ذلك الكتاب، أم يأخذ معه (شرح الزوزني على المعلقات) الذي كان رفيقه في الإعدادية حينما كان يحفظ تلك القصائد السبع التي علقها الجاهليون داخل الكعبة؟

كان طيلة أيام الإخلاء يرجع إلى بيته في بيت لاهيا، رغم خطورة المكان يجازف بالرجوع إليه، هو على يقين أن روحه تسكن في الزاوية الشرقية الجنوبية من البيت، حيث المكتبة تُسمعه أصوات العلماء ومحاورات الأدباء، ونقائض جرير والفرزدق، تُخرجه من ظلمة الحرب وشقائها إلى نور الحياة وسعادتها.

لا ينسى ذلك الأنيق أن يعيش طقوسه قبل دخول المكتبة، يغتسل ويتطيب ويصفف شعره بعد أن يتوضَّأ، ثم يدخل إليها بقدمه اليمين، تنزعه إلى تلك الأفعال سجايا حميدة كان العرب يفعلونها، كانوا –كما قال أبو عمرو بن العلاء- يتوضؤون قبل أن تنشد قصيدة المتلمس: "تعيرني أمي رجال...".

حتى إذا كان الثامن والعشرون من تشرين الأول/ أكتوبر، خرج من المكتبة صباحًا مسرعًا، ليقضي حاجة له، عاد متلهِّفًا متشوِّقًا لإكمال ما كان فيه من نعيم مقيم، وصل إلى بيت مهدَّم، فرجع من الشارع نفسه وخرج منه، هذه أول مرة يضل فيها عن طريق بيته، لا أدري ما الذي كان يشغله، أغلب الظن أنه ما زال يدير في ذهنه خلاف العلماء ومفاضلتهم بين أبي تمام والبحتري، وهل كان الآمدي منصفًا في (الموازنة بين الطائيَّين)، أم هل كان الجرجاني عادلًا في (الوساطة بين المتنبي وخصومه)؟

في طريق رجوعه من ذلك الشارع الذي دخل فيه بالخطأ، اصطدم ببيت صديقه (معروف)، فاتخذ ذلك البيت مَعلمًا وبوصلة إلى بيته، وإذا به يسير في نفسه الاتجاه الذي كان يعتقد أولًا أنه طريق خطأ، إذًا فالبيت المهدم بيته، والأوراق التي تملأ الشارع أجزاء كتبه وأشلاؤها، لا مجال لديه أن يبكي ويندب، فإن الحروب السابقة كوَّنت له مناعة قوية ضد الصدمات، ونقشت في ذهنه أن كل شيء في هذه البلاد جائز.

لم يعرف طريقة لطيفة يوصل بها خبر البيت وتدميره إلى أهله، هو يعرف أن في طبعه بعض القسوة، دخل على الأهل في بيت النزوح في مخيم جباليا، وقال لهم: "قُصف البيت"، فما كان جواب الوالدة إلا أن قالت: "الحمد لله على كل حال"، ولكنه ما زال يعجب من سؤال رزان ابنته ذات السنوات الأربع: "والمكتبة يا بابا؟".

عوَّده والده أن يكون عملِيًّا، يمضي في ما يخطط له سريعًا، أول شيء خطر في باله أن ينقذ أي شيء من بقايا تلك الجنة، وثاني شيء خطر في ذهنه ذلك الذراع المتينة، صديقه (معروف الأشقر)، الذي كان ينتظره قبيل كل رجوع له من القاهرة، يقف من الصباح الباكر أمام البوابة الفلسطينية من معبر رفح، ويحمل معه تلك الكراتين من الكتب، ويلازمه حتى يضع كل كتاب مكانه.

(معروف) إنسان شهم وقوي وجلْد، غير أني رأيته أضعف ما يكون حينما رأى ذلك الدمار الذي حلَّ بالبيت والمكتبة، لكنه تماسك وشرع معي سريعًا في إجلاء بعض الكتب، ما زال صوته يرن في أذني حينما ينقذ كتابًا، فيقول بصوت فرح: "حمزة، لقيت كنز"، فأرد عليه مسرعًا: "شو يا معروف؟"، فيقول لي: "كتاب المستطرف للأبشيهي"، فأنتشي طربًا لنجاة ذلك الكتاب، ثم بعد دقائق: "حمزة، لقيت كنز تاني"، "شو يا معروف؟"، "كتاب الكافية لابن الحاجب"، "الله أكبر يا معروف، الحمد لله".

وهكذا بقيت معه ثلاثة أيام حتى أخرجنا 5% من المكتبة، وحفظناها في بيت مجاور لبيتنا المدمر، وجاء اليوم الرابع شديد المطر فأتلف كثيرًا من الكتب التي كنت أظن أني أستطيع إجلاءها، لا أذكر يومًا أني كرهت المطر إلا تلك الأيام، وقلت في عقلي: "حسبي أني أستطيع إنقاذ بعض الكتب".

غالب الظن أن الحرب كانت تستمع إلى ما قلته في عقلي، فأقسمت عليّ كما أقسمت على كل ساكن لغزة ألا تترك له ما يسعده، فقصفت البيت الذي وضعت فيه الكتب التي أنقذتها، ولكن نفسي الماكرة ما زالت تخففت عني وتقول لي: "العلم في صدرك يا ولدي".


* كاتب من غزّة

نصوص
التحديثات الحية