استمع إلى الملخص
- **الحياة اليومية في غزة**: تغيرت الحياة اليومية بشكل جذري، حيث فقدت النساء روتينهن البسيط وأصبح القلق والرعب جزءاً من حياتهن، والأطفال يعيشون في خوف دائم من الرصاص والقصف.
- **الكتابة كشكل من أشكال المقاومة**: تعبر الكاتبة عن معاناة غزة من خلال الكتابة، التي أصبحت وسيلتها لمقاومة الظلم والتعبير عن الألم في ظل الحصار والحرمان.
صباح مساء تتسع المقابر الجماعية ويتآكل قلبي! لا تموت غزة بصمت، تصرخ، تنوح وتستجير، لكن ذلك لا يغير شيئاً! وأتساءل: هل يدرك القاتل حقاً وجوه قتلاه؟ هل يعرف أن أهدافه الطرية لا تستحق كل هذه الذخائر؟
صباح مساء لا يتوقف شريط الأخبار، تغزوه غزّة، تراقب كيف يشيّع ضمير الناس الميت على شكل أخبار عاجلة وتصريحات بأربطة عنق، وكيف يتمّ التلاعب بالألفاظ وبذل أقصى الدقة في تبرير أقسى القتل؟ تظنّ أن صراخها لا يسمع، لكنها لا تتوقف عن العد! تنام غزة وتصحو على صراخ ساحات بعيدة باسمها تريدها حرة بهتافات تبدو لها مثل حلم Free free Palestine، لكنها تستفزّ هراوات الشرطة والاعتقال الجماعي أليست تلك بلاد العم سام وأخواتها؟
- إنها أيضاً بلاد محتلة يا صديقي
تجرب غزة أن تقول شكراً للهتاف والدموع. تكتب شكراً على خيمة النزوح ثم تفكها وتركض، يجتاحون رفح، يغلقون المنافذ كلها. الوقت ينفد، لا يكفيها الهتاف الذي يجعلها تبكي وتبتسم، فالمقابر ما زالت تبتلع أطفالها كل ثانية!
صباح مساء. في الدبابة والطائرة لا يستريح الضاغط على الأزرار في لوحات التحكم، ما زال يرسل القذائف والصواريخ ويرسم خطوطاً على الخريطة الكبيرة للبلد الصغير. هيه، أيها الجنرال، هل يستحق الأمر كل هذا العناء؟ كان يمكنك أن تحترم حياتي ولا تسرق بيتي، كان يمكنك أن تعيش بلا إفساد في مصيري وسفك لدمائي، لكنك أيضاً يحتلك الشيطان.
من يعيد إلى نساء غزة ضجرهن العادي؟! من يعيد إليهن مكانسهن، قدور الطبخ وجلسة العائلة حول طعامها الساخن؟
في منتصف كل جسد حفرة صغيرة، ما زالت تتصل بحبل سري لم ينقطع، حبل يمدنا بالحب والرحمة والقلق الشهيّ، لكن القلق لم يعد اعتيادياً وشهياً عند أمهات غزة، بل صار رعباً لا يهدأ، واشتهاءً يقرص بطن المدينة التي فقدت موائد الأمهات المعتادة وفقدت كثيراً من الجالسين المحتملين حول ابتسامتها.
غيرت غزّة عاداتها، فقدت شكلها الأليف وسلوكها الرحيم، صارت بنتاً لا تجد من يرتب شعرها أو يبدل ملابسها المعجونة بالغبار والرمل ورماد البيوت، وإني لأراها ابنتي في خوفي عليها وقلقي من اضطرابها وعجزي أمام صرخات ألمها الوحشيّ.
هل سنضيع طرقنا إليك يا غزة ونحن نشهد غيابك شارعاً شارعاً، وبيتاً بيتاً، وعائلة تلو عائلة، ونحن على بعد مجهول من احتمال أن نكون يتاماكِ الجدد؟
من يعيد إلى نساء غزة ضجرهن العادي؟! من يعيد إليهن مكانسهن، قدور الطبخ وجلسة العائلة حول طعامها الساخن؟ من يعيد إليهن انتظار عودة الصغار من المدارس؟! من يعيد لحظة الاستيقاظ في الصباح العادي وكسل الصغير الذي يسألها خمس دقائق نوم أخرى ليكمل الحلم! من يعيد إليهن نهارهن الهادئ وحبل غسيل طويل؟ من؟
الحزن هدية العالم لنا
نحن أطفاله الذين لا يكبرون!
وحزننا الفريد يأتي متغيراً وكأنه يخشى علينا من الملل!
فقد يكون انفجاراً في سقف البيت،
وقد يشبه قلع أسفلت البلاد،
أو سحق أشجارها ومقابرها
قد يأتي على شكل قذيفة عمياء أو غبية،
وقد يمنع وصول الطعام فترتجف المعدة من صوت خوائها اللعين
بكينا طويلاً كي نستحق هداياه فجاءت من جديد على شكل خيمة!
أيها العالم،
نحن اختصار حزنك العميق والوحشي،
نحن بحيرتك المالحة.
■ ■ ■
ولدت في مخيم البريج، في وسط قطاع غزة، كبرت وتعلمت الكتابة والتعبير في مدارس أونروا للاجئين، رأيت الجنود في زمن الانتفاضة الأولى وهي تداهم البيت في أي وقت تشاء بلا حرمة للصباح أو المساء، سمعت اللغة العربية المتكسرة للجنود، النبرة الغاضبة التي تأمر بفتح الباب ثمّ تحقق وتسأل عن ساكني البيت قبل تفتيشه بحثاً عن مختبئين، عرفت اللباس العسكري مضافاً إليه الخوذة الثقيلة، سمعت الركض في النهار أو في منتصف الليل، لا فرق! وحفظت أصوات الصفير المتقطع والتكبير الجماعي حين يقبض الجنود على أحد الشباب فينبه بعضهم بعضاً بأصوات بشرية متفق عليها مسبقاً، قرأت البيانات الطازجة وهي تكتب بأيدي الملثمين على جدران المخيم، عرفت أسماء الفصائل وشعاراتها في سنّ مبكرة وقفت قرب الملثم الإعلامي، وشعرت بغليان الأدرينالين في العروق، وأنا أسمع سرعة أنفاس الكاتب على الجدار، المتربص بدورية الجنود!
اعتدنا في غزة أن نعيش حروباً حتى في وقت الهدوء أي بين حرب وحرب، ولأننا لا نملك حياة عادية بمعنى أدقّ
عشت الخوف الذي يدفع مجموعة كبيرة من الأطفال والشباب إلى الركض حين ينطلق الرصاص من القوة المقتحمة لمدخل المخيم ثم الانتشار في أزقته، عرفت معنى منع التجوّل حتى إشعارٍ آخر، ومعنى أن تمتد يد الجيران عبر النوافذ المتلاصقة بأكياس الخضار وأطباق الطعام وربما الخبز في وقت منع التجول ذاك!
مستمر هذا الوجع الفلسطيني منذ 76 عاماً، وتحت حصار مستمر لغزّة منذ صارت بلا حواجز داخلها وانتقلت الحواجز إلى حدودها الخارجية، لتلقب بأكبر سجن في العالم منذ العام 2006 وحتى اليوم، أي بما يعادل ثمانية عشر عاماً من عمري وعمرها، لقد ظلَّل الحصار والحرمان وضيق الخيارات سنوات نضجي، وظلّت الكتابة هي ثمرة قلبي البرّاقة في عتمة انقطاع الكهرباء وتحت سماء تزنّ فيها طائرات الاستطلاع بلا توقف! لقد اخترت الكتابة لتكون هي طريقتي في التعريف والمعرفة بنفسي، وقد كتبتُ هذه النصوص في الحرب التي لا تتوقف، هذا لأننا اعتدنا في غزة أن نعيش حروباً حتى في وقت الهدوء أي بين حربٍ وحرب، ولأننا لا نملك حياة عادية بمعنى أدقّ لم تعرفنا الحياة العادية ولم نعرفها، ربما هذا تحديداً ما يجعلنا قابلين للانفجار دوماً على شكل بكاءٍ أو قصيدة.
تبدأ الأحداث العظيمة فتصبح فجأة للفلسطينيين عين واحدة تبكي لبكاء الأمهات، أو قلب واحد نستشعر اختناق الدمع فيه وتحجر الحواس أمام مشاهد القتل والتدمير، حزانى دوماً، حزانى معاً، وأما الفرح فخجول وجانبي!
تفاصيل ظالمة في حياة كل فلسطيني بسبب هذا الاحتلال الذي لا يرانا أو يرانا ولا يريد ملاحظتنا بشراً، يريدنا كما تمنى وكما وصف بلادنا "أرض بلا شعب"، يريدنا شعباً لا يطالب بشيء، ليس له حق في شيء، مخربون نزعج راحته فوق أرضنا بكل محاولاتنا كي نتنفس أو نعبر من أمامه، فما بالكم إذا غضبنا من شدة الظلم؟
إذا غضبنا يُفعل بنا كما شهدتم في غزة في أعلى حد! ويأسرنا في أدنى حد. هذا الاحتلال يريدنا شعباً ذليلاً بلا كرامة، نخدمه بإخلاص إن أمكن، ويفضلنا مقتولين!
بأي حق يا الله يحدث لنا كل ما حدث ويحدث؟
مئات آلاف القصص ما زالت تكتب في بلدي، نهاياتها كلها حزينة! إنها ليست مجرد قصص عن موت الذين حلموا بالحرية وتذمروا كثيراً ثم انتفضوا على قتلهم البطيء بالحصار والفقر والبطالة وإغلاق البحر، الذين ثاروا ضد اغتيال حلم المطار ورحلات السفن أو عن قطع أواصرهم الوطنية بما خلف حدود غزة مع باقي مدن فلسطين وأضف إلى ذلك التحكم في ذهابهم وإيابهم الحر والطبيعي عبر الحدود البرية المصرية لغزة! مئات آلاف القصص التي تقول إننا لسنا أرقاماً انتبهوا جيداً إلى كل التفاصيل، واعلموا أن قتلنا بهذه البشاعة شيء وحشي لا نستحقه بشراً ولا يستحقه أحد!
هذا شعب حاول أن يرفع صوته، حاول أن يبدع أسلوباً ما أمام الإغلاق على أنفاسه وسرقة حقه في حياة طبيعية فماذا كان الحل العبقري للعدو الصهيوني أمام هذه الصفعة الفلسطينية في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول؟ كان كالتالي فلنسحق هؤلاء "الحيوانات البشرية" بلا رحمة بكثافة وسرعة، حيث إن القتل البطيء لم يجد نفعاً!
الحصار أقسى ما يكون،
التجويع
إنهاء مظاهر الحضارة المدنية،
الرعب بالقتل العشوائي (الإرهاب)،
سحق البنايات والبيوت (التشريد).
يريدونها نكبة جديدة فكيف يستقبل الفلسطينيون والعالم النسخة المطورة من هذا القرار الدموي؟! افتحوا الشاشات وستعرفون كل شيء. لم يعد لهذا العالم البشع ما يخفيه.
أخبرتني جدتي في حياتها عن حكاية الترحيل القسري، وعن خوفهم آنذاك من قصص الذبح في القرى البعيدة مثل مذبحة دير ياسين الشهيرة ومن قنابل تنفجر في أجساد الناس وكيف أنهم كانوا يلتقطون بقاياهم (أشلاءهم) عن أشجار الجميز والصبر!
أخبرتني عن صرة الملابس التي أخذتها على عجل وكانت تصف لي كيف كانت صدمة عدم القدرة على العودة مجدداً، وقسوة الخيام والتخييم وتوزيعات الطعام المذلة في الخيام، بعدما كانوا أعزاء في بيوتهم قرب حقولهم، دواجنهم ومواشيهم!
كانت الحياة وقتها بسيطة وكان القتل فيهم أيضاً يتم بأدوات بسيطة،
كانت الجرائم تتم في جنح الليل أيضاً وتأخذ وقتاً حتى تصل أخبارها من مكان إلى آخر! لم تكن المذابح تبث على الهواء مباشرة وبقنابل هائلة ثقيلة الوزن ومعدة لاختراق المدرعات ودك الحصون مثلما يحدث الآن ضد أجسام الناس وبيوتهم في غزة!
ما أشبه اليوم بالأمس إذن! الاحتلال يجدد عهد الثأر والكراهية مع أبناء شعبي أبشع ما يكون، ويجدد كل أسباب نبذه من الحضارة أغبى ما يكون! وها نحن وبكثافة هذه الأيام نشهد ملخصاً بأفظع الجرائم الصهيونية جيلاً بعد جيل في حق الشعب الفلسطيني جيلاً بعد جيل!
لبلادٍ لم تعد ترسم عينيها بالكحل
وفقدت لذة المرايا،
ينزف حناء دمنا على أصابعها،
تقبض على الجمر،
وتعزفنا نشيجاً متقطّعاً طويلاً
لثوبها المطرّز بالصنوبر والقرنفل والصبر،
لرائحة البرتقال في جيدها تخالط ملح البحر
لدمها الذي يسيل من ثقبٍ يتّسع
يسيل ولا ينتهي
يسيل ونغرق
نحن أبناء حياتك الموتى
ودمنا نهرك الجاري
■ ■ ■
ماذا يعني أن تكون شاعراً في زمن الحرب؟
هذا يعني أن تعتذر
أن تكثر من الاعتذار
إلى الأشجار المحترقة،
إلى العصافير التي بلا أعشاش
إلى البيوت المسحوقة
إلى شقوق طويلةٍ في خاصرة الشوارع
إلى الأطفال الشاحبين قبل الموت وبعده
إلى وجه كل أمٍّ حزينةٍ أو مقتولة!
ماذا يعني أن تكون آمناً في زمن الحرب؟
يعني أن تخجل،
من ابتسامتك
من دفئك
من ثيابك النظيفة
من ساعات ملَلِكَ
من تثاؤبك
من فنجان قهوتك
من أحبائك الأحياء
من شبعك
من الماء المتاح
من الماء النظيف
من قدرتك على الاستحمام
ومن المصادفة أنك ما زلت حيّاً
يا إلهي لا أريد أن أكون شاعرةً في زمن الحرب.
* شاعرة من غزة