عن رفح النازحة

18 يوليو 2024
رائد عيسى/ فلسطين
+ الخط -
اظهر الملخص
- **قصص النزوح والمعاناة**: الحرب في غزة تسببت في نزوح آلاف العائلات، حيث أصبحت الخيمة حلمًا صعب المنال بسبب بيعها في الأسواق السوداء. العائلات تعيش في ظروف قاسية، تعاني من البرد والجوع، وتفكر في النزوح إلى أماكن أكثر أمانًا.

- **تراجيديا الحرب**: مشاهد النزوح ودموع الكبرياء جزء من تراجيديا الحرب التي دمرت البيوت والمدارس والمستشفيات، وتركت الناس في حالة من الشقاء والضياع، مترددين في النزوح مرة أخرى خوفًا من المجهول.

- **الأمل المفقود**: رفح أصبحت مدينة خالية تقتلها الوحدة والخوف، والعائلات تعيش في خيام، تشعر بالعجز واليأس، تتمنى نهاية العناء بأي وسيلة، حتى لو كان الموت هو الحل الوحيد.

ما زالت الحرب تنشب نيرانها في رحم المعاناة، حتى تمخّضت منها قصص البؤس والقهر والنزوح، حكايا تدثّرها خيام الهمّ والألم، وتمتطي صهوة العزم والإصرار للاستمرار في خوض المعركة، حتى لو كان الموت هو المفر من جحيم البقاء.  الخيمة أصبحت حلم الجميع، وأصبح الحصول عليها في غاية الصعوبة، فكيف لا وهي تسرق من المخازن ويتم بيعها في الأسواق السوداء بأثمن الأسعار.

أعواد كبريت وشمعة نازح
في خيمة تهمي بدمع مالح 
تذكي على قهر الرجال جهنمًا
والبرد يمخر في الفؤاد النائح 
نحيا الجحيم بكل ألوان الأسى
مقتًا. وتنزف بالعتاب  جوارحي

نفكر في عملية نزوحٍ جديدة من مدينة رفح إلى مواصي خانيونس أو دير البلح، ولكن كيف ذلك؟  تدور في رأسي عشرات الأسئلة حول عملية النزوح،  هل يوجد مكان آمن فعلًا؟ أين تتواجد هذه الأماكن بالفعل؟ هل وسائل المواصلات متوافرة وما هي طرق تأمينها؟ وكم هي أسعار النقل؟ هل تتوافر وسائل الحياة الأساسية مثل الماء والأسواق والمخابز في هذه الأماكن؟  العديد من الأسئلة باتت تنشلني من حالة الاستقرار إلى مواطن التيه، ولا إجابة لديّ سوى البقاء في دوامة العجز.

مشاهد النزوح، شاحنات النقل، عيون التشرّد، ودموع الكبرياء، كلّ ذلك ضمن تراجيديا الحرب التي تقودنا من قهرٍ إلى قهر ومن وجع إلى موت بطيء. كلّ هذا كان كفيلًا بأن يقتلنا آلاف المرات، أيّ نكبةٍ هذه التي قتلت فينا روح الحياة، خسرنا فيها بيوتنا التي دفعنا أعمارنا وأحلامنا في بنائها وتأسيسها، ضاع البيت وضاعت حياة أطفالنا، تم قصف المدارس والمساجد والمخابز والمستشفيات والمرافق الحياتية بشتى أنواعها. ما الذي ينتظرنا خلف هذا الشقاء؟ أيّ بركان سيلفظنا بعد هذا الجحيم؟ ومتى سنعود كي نلملم ما تبقى منا؟

يا طينُ عد بي طفلة في صبحها 
سحر الزنابق. صوتها نجواكا 
تلقي السلام على الحياة بضحكة 
حتى يبلسم خدّها كفاكا 
ماذا تبدَّى كي يبارحنا الشقا؟ 
وتثور آهي في جحيم نهاكا 
ما عدت أقدر أن أواصل ثورتي 
خذني إليكا فغايتي لقياكا 

كأن هذا الكابوس لا يريد أن ينتهي، نمضي به من هاجس إلى هواجس أشد عنفًا من سابقتها

العجز ينهش في ضلوع الصبر، والجوع يلوك من لحمنا ويجرع من دمائنا دون شفقة، والخذلان يمتطي ظهر أمة لا تعرف للكرامة أيّ معنى، نعيش في تيهٍ لا خلاص منه سوى وحشة القهر والعجز والأسى. ما زالت عائلة زوجي في شمال غزّة، في مراكز الإيواء، لم يتبق لهم سوى الله ورحمته بهم، بعدما أنهكتهم الحرب ونالت من كبريائهم. ها هم ينتظرون رحلة نزوح جديدة إلى غرب غزّة، بعدما شهدوا المئات من المذابح وعانوا من القهر والجوع والمرض، ها هم يحملون ما تبقّى لهم من عزيمة للعود بحياة أطفالهم، لأنهم يعلمون جيدا غضبة الحرب ولوعتها، نالت منا الحياة، لم نعد نفكر فينا، في ملامحنا التي شاخت، في آمالنا التي احترقت، كل ما نفكر فيه هو موت بلا ألمٍ..

يا طين قل لي ما الذي أبكاكا 
تجري على كف المنون دماكا 
يا طين قل لي ما الذي أدمى المدى 
فتخضبت من مقلتيه رُباكا 

كلّ شيء تغيّر حتى تبدلت في أحداقنا الرؤيا، لم نعد ننظر للمرايا في زمن الشقاء، مرآتنا هي الأحداث التي تثبت لنا من هم أحبتنا، ومن هم أهالينا، تغيّر الوقت وتكدر العمر وشاخت ملامحنا ونحن ننتظر المصير.  الصبر ينفذ، والعمر يمضي، والأحلام تضيع، ضاقت بنا السبل ولم يتبق لنا سوى البكاء والشكوى. 

ظلّي الشريد يداري حرّ دمعته 
وكم سفينٍ هوت في غيهب الحتف 
من خيمتي لـ "المواصي" ظلّ يتبعني 
وحش المنايا، ضياعُ الأهل والإلف 
لا صبر عنديَ لا آمال، لا وطن
ما دمتُ أهرب من موتٍ إلى قصف 

استيقظنا من جديد على أمل النزوح، قمنا بفك خيمتنا وطويها، وجمعنا أمتعتنا وكلّ ما نحتاجه للنزوح إلى مخيم النصيرات بعد رحلة عناء طويلة ومريرة قبل ذلك في رفح التي وصلناها من شمال غزة. ولكنها إرادة الله فوق كل شيء، تم نشر بعض الأخبار عن عمليات نزوح من دير البلح والنصيرات إلى الجنوب، ولا نعلم مدى صحة هذه الأخبار، ولكننا أخذنا قرارنا، فطالما هناك خطر، فالبقاء في رفح هو الأفضل، ولا مفر من الموت مهما طال هروبنا. 

يا لهف قلبي. فهذا الموت أترعنا
وضجّت الآه. يكفي طيرنا ذُبِحا
جهنم العجز آمال قد احترقت 
وفيلق الشر في أرجائنا نبَحا 
كيف الخلاص؟ أغيثوا ضعف أمتنا 
أين الملاذ؟ فجور النائبات رحى 

لم نعد نفكر فينا، في ملامحنا التي شاخت، في آمالنا التي احترقت، كل ما نفكر فيه هو موت بلا ألمٍ

خيّم الهدوء على مدينة رفح، من بعد ما كانت تعج بمئات الآلاف من النازحين، أصبحت خالية تقتلها الوحدة والخوف وهي تنتظر الموت البطيء. أعانقها وأعانق حزنها الذي يشبهني تمامًا، وحيدتان نحن تجمعنا القضية ويهزنا لون الدم وتشتتنا مناشير الاحتلال التي تلزمنا بالنزوح ولكن إلى أين وقد ضاقت بنا السبل. 

دمعي على وجه المجرة قد جرى
حتى تشظّى في المحاجر وانبرى 
ضجّت به سحب النوائب:كيف لي
أن تثخن الأوجاع غيثي يا ترى؟ 

عادت رفح لتلفظ أنفاسها الأخيرة، فهي الآن ترنّم ألحان البقاء، برغم ما يعصف بها من موت. ما زلت وعائلتي في منطقة تل السلطان، التي نالها القصف المتوالي، ولكنها مازالت بعيدة نوعًا ما عن آليات الاحتلال ودباباتهم، مازلنا ننتظر إلقاء المناشير علينا من طائرات الاحتلال كما حدث في السابق للاستمرار في رحلة النزوح من جديد.  لم يعد هناك طوابير مياه، ولا ازدحام في السير، فمعظم أحبتنا غادروا المدينة إلى صحراء خالية تضمهم بقهر وتعصفهم بوحشتها وهموم جديدة..

فما جزعت عيون القلب لكن
بموتٍ هزّ للأحباب جذعي 
أنا الزيتون مثل الطود باقٍ
وإن راموا من الأعماق  قلعي 
وهذي الحرب خاتمة المراثي 
تئن جوارحي ويضجّ سمعي 
ولكن عزّتي في الحق تأبى
على الأنذال أن يهْنَوا بقمعي 

أتأمل في زوايا الخيمة، وأسافر في دنيا اللاشيء عبر أجنحة المستحيل، علّي ألاقي منفذًا جديدًا إلى الحياة، ولكن لا أجد في الأفق سوى المجهول. الخوف من المجهول، هو أعتى الأعداء وأشد فتكًا من أسلحة اليهود وأعنفها. الخوف على الأولاد، على الأهل، على الذات، على الأحلام التي اندثرت مع أنقاض ودماء الشهداء.  أتأمل في عيون الناس، في صراخ المكلومين، في شهقات الثكالى، في نواح طفولة دفنت قبل أن تمارس حقها في اللعب في الحلم والحياة. يا لهذا البؤس الذي لم يرحمنا، وجعلنا كالدمى في أيدي الشقاء، يارب رحمتك، عفوك، ولطفك بنا وبجراحنا الهادرة. 

بدأ العد التنازلي، وها هو التصعيد بدأ من جديد، رفح في آخر شهقاتها المتنازعة. 

فهل ستصمد اكثر؟ أم تموت بصمت قاتل؟! 

يطوّق الموت في أحداقه ذاتي
ولا عزاء لمثلي بالمواساة 
كفّاهُ تنكأُ جرحى ثم تبرحه 
كدميةٍ تحت أقدام الصغيرات 
يدق فوق نواصي الذعر ماردُه 
بمخلب قد تمادى في عذاباتي 
لا موت يأتي على شوقٍ ليعتقني
كالطير أنشج من جمر احتراقاتي 

وكأن هذا الكابوس لا يريد أن ينتهي، نمضي به من هاجس إلى هواجس أشد عنفًا من سابقتها. كابوس نزع من حياتنا بهجتها واستقرارها، تركنا في صحراء الضياع، نكفكف أوجاعنا بالصبر، ونواسي مصائبنا بالفرج القريب. 

وضاق بي الكون لولا كنت أحسبه
ضربًا من العيش لا قبرًا لآهاتي 
إنّي حملت همومًا ليس يدركها 
رأس الجبال ولا صدر السماوات 
والدمع يهمل ملء العين منتظرًا
كفَّ المنون توافيني نهاياتي

كم ستأخذ هذه اللعنة من عزيمتنا، من أحبتنا، من ملامحنا، التي تكسّرت مرآتها المرفهة مع أول طبول الحرب، حتى ألواننا تغيرت وتكدرت، لم نعد نحن أنفسنا، ولم نعد نشبهنا. نسينا كلّ أساسيات الحياة، وتأقلمنا مع حياتنا الجديدة، تدثرنا ثياب البؤس والشقاء، واتكأنا على عصا الصبر، لعلّ النور يفج إلى أغوار الألم من جديد، ونستيقظ على صباح أجمل، ولكنه ليس كابوسا. 

حربٌ اقتلعت غزة من جذورها، وأغرقها وأغرقتنا ونالت من أحلامنا المتهالكة التي لن تقوى على لملمة أشلائها من جديد.. 

إلى أين أيتها الحرب؟ إلى أين أيتها اللعنة؟ 
نواجه الموت بقلوب متشوقة صادقة لينتهي هذا العناء. 
لم نعد نحتمل المزيد، لم نعد نقوى على البقاء..
ما عدت أقوى على الأوجاع يا بلدي
هبْ لي جناحًا وخذني للمدى الآتي 
شواطىء البؤس ضجت في مدى رئتي 
لتهدر الروحُ:  كفُّوا عن جراحاتي 
صبري على ضفّة الآلام منهزم 
شاخت رؤاه فدقّ اليأس ساعاتي

يا لهذا الموت الذي لم يعد يفارق مخيلتي، ولكن هل سيكون موتًا قاسيًا غادرًا، ام سيكون موتًا رحيمًا؟ وأيّ رحمة ننتظرها من هذه الحرب الشرسة الهمجية الشرسة. 
إلى أين؟ وحتى أين؟ ومتى؟ وكيف؟ 
لا إجابة سوى العجز

نصوص
التحديثات الحية
المساهمون