في عام 1877، قامت بعثة أثرية فرنسية إلى موقع تلّ الهبة العراقي، باكتشاف العديد من المخاريط الطينية التي تحمل كتابات سومرية تعود إلى الفترة ما بين الألف الثالث والألف الثاني قبل الميلاد، وقد تضمّن أحد المخاريط عبارة تقول حرفياً "العودة إلى الأم"، وهي العبارة التي يتّفق كثيرٌ من علماء الآثار على اعتبارها أقدم دليل على ظهور مفهوم الحرّية في تاريخ البشرية.
يستعيد التشكيلي الإيراني، المقيم في نيويورك، علي بني صدر (1976)، هذه العبارة السومرية جاعلاً إياها عنواناً لمعرضه الذي يستضيفه غاليري "تادايوس روباك" في باريس حتى الثامن من تشرين الأول/ أكتوبر المقبل؛ خيارٌ يشرحه الفنان بالقول إن الحرية هي دائماً ما يبحث عنه عندما يرسم، بحسب بيان الغاليري.
لا نتأخّر في اكتشاف هذا الدور الأساسي الذي تلعبه الحرّية، والأسئلة السياسية بشكل عام، في تجربة التشكيليّ الإيراني. ولعلّ من أبرز الأعمال التي تُعطي صورة عن مقاربته للحرّية، لوحته المعنونة "الاستبدال الكبير"، والتي ينتقد فيها النظرية العنصرية التي تحمل هذا الاسم، والتي يروّج القائلون بها لفكرة أن الهجرات ــ ولا سيّما من العالم الإسلامي ــ تسعى إلى استبدال شعوب البلدان الغربية بشعوبٍ أُخرى.
ومثل أغلب لوحات بني صدر، تضمّ "الاستبدال الكبير" (2022)، في حجمها الذي يصل متراً ونصف المتر تقريباً طولاً وعرضاً، جسداً من الأشكال والأجساد نصف البشرية ونصف الحيوانية أو نصف الأسطورية، المتداخلة، بألوانها المائلة إلى البنفسجيّ والرماديّ، ضمن قراءةٍ بصرية توحي أكثر بالتقارب والتشابه بين الكائنات منها إلى التباعُد والكراهية.
تقوم أغلب لوحات المعرض على لغة بصرية تميل إلى السردية والملحمية، حيث نقع على الأشكال المرسومة وهي دائماً في لحظة حركة والتقاء، بل وتحوّل، وكأننا أمام أجساد أو أشكال غير مكتملة، أو أنها ربما قابلة إلى تغيير هويّتها، والالتحام بالآخر، والانفتاح عليه، في أية لحظة.
إلى جانب إحالته المتعدّدة إلى عالم الفكر والثقافة، كاستعادته للعبارة السومرية أو رسمه للوحة تحمل عنوان جملة للروائي التشيكي فرانس كافكا، يُظهر علي بني صدر قدرةً أيضاً على الجمع بين مصادر فنّية متعدّدة، حيث تذكّرنا لوحاتُه بتكوينات المنمنمات الفارسية والعربية والهندية الممتلئة بالأشكال والبشر، كما تضعنا، في الوقت نفسه، أمام تأثّره بفنانين معاصرين، مثل البريطاني فرانسيس بيكون.