تحت عنوان "أبحاث وأوراق في الفلسفة والفكر والثقافة"، يضمّ كتابٌ للأكاديمي الكويتي عبد الله محمد الجسمي مجموعةً من الكتابات البحثية التي شارك بمعظمها في ندوات أو مؤتمرات في الكويت وخارجها، مضافةً إليها ورقةٌ ينشرها لأوّل مرة موضوعها "ثقافة الحرية". ويمكن القول إجمالاً إن هذا الكتاب الصادر عن "مكتبة ومقهى صوفيا" (الكويت، 2020) معنيٌّ بالثقافة بالدرجة الأولى، وذلك بمعنيين؛ الأوّل أنّها جوهر أو محور مشكلاتٍ مثل الحرية أو تحديث الهوية أو توجّهات الحركة الوطنية الكويتيّة. والثاني أنّها الحلّ لهذه المشكلات في الوقت نفسه. وتُجاور الثقافة، منظوراً إليها من هذين الجانبين، الفلسفة أيضاً، ليس لأنّ الجسمي يدرّس الفلسفة في جامعة الكويت فقط، بل لأنّه يَعتبرها حقلا معرفيّاً ذا دور في عملية التغيير، وفي صياغة التحوّلات الفكرية التي تأتي عادةً في أعقاب التحوّلات المادية.
ورقة "ثقافة الحرية"، المقدّمة في "المؤتمر السنوي الخامس للعلوم الإنسانية والاجتماعية" في الدوحة (2016) حول موضوع سؤال الحرية في الفكر العربي المعاصر، تكاد تكون مفتاح الأوراق والأبحاث الأخرى، سواءً كانت سياسية أو فكريّة بحتة أو اجتماعية، لأنّ موضوع الحرية يكاد يَختصر إشكاليّات الحقول الأخرى. تبدأ هذه الورقة بملاحظةِ أنّ الأغلبية الساحقة من الكتابات التي تناولت موضوع الحرية في المجتمع العربي تتناوله من زاوية سياسية وفلسفية وحقوقية، ومن هذه الزوايا تحاول تشخيص المشكلة وتقديم الحلول. ولكنْ على الرغم من أهمّية هذا النهج، إلا أنّه، كما يرى الباحث، لم يُصِبْ جوهر المشكلة التي نعيشها فيما يخص الحرية، والتي "تكمن أوّلاً في مسألة الثقافة، أو الثقافات الدارجة في المجتمع العربي". وبيان ذلك أنّ القيم، ومنها قيمة الحرية، إضافة إلى الممارسة السياسية والنظرة إلى الحقوق وغيرها، ليست إلّا نتاج ثقافة ما.
يرى أن مشكلة الحرية تكمن، عربياً، في البُعد الثقافي
وفي ضوء هذا، لا يحقق تناول الحرية، بصفتها مصطلحاً مجرداً ــ كما هو الحال لدى غالبية المفكرين العرب ــ الأهداف المطلوبة. ويرجع السبب في هذا إلى عنصرين؛ الأول هو الطابع النظري لهذا التناول الذي قاده إلى أن يكون ميتافيزيقياً. والثاني، وهو الأكثر أهمية، يتمثّل في عدم فعاليّته في واقعنا، لأنّ تناولاً كهذا يتجنّب تقصّي ورصد المشكلات المتعلّقة بالحرية، وعلاج وإصلاح الجانب الواقعي من المشكلة.
ويلاحظ الباحث، انطلاقاً من هذه المقدّمة النقدية، أن "نقاش مشكلة الحرية المجرّد لا يُساهم في تغيير الواقع العربي بشكل كبير، فنحن لا نمتلك فلسفة عربية، وليس لدينا تقاليد عربية راسخة نستطيع بوساطتها تحليل المصطلحات أو نقد الأفكار والقيَم وغيرها، أو طرح بدائل لها، أو إعادة صياغتها نظرياً، ومن ثم البحث في تطبيقاتها العملية". ومما يزيد مِن لا جدوى معالجة كهذه، نظريّةُ "غياب نموذجٍ ما لمجتمع عربي تُمارس فيه الحرية بمختلف أنماطها فعلاً، وتُحترم فيه حقوق الإنسان". ذلك أنّ وجود النموذج يسهّل، كما يقول، "التأسيس عليه، بل ويجعل صياغة قيَمه وممارساته النظرية من أجل تطويرها من جهة، ومن ثم البحث في تطبيقاتها على المجتمع من جهة أخرى، عمليّةً ممكنة".
ولا تفوت الباحث ملاحظةُ أنّ هناك رغبةً عارمة لدى الكثير من المفكرين والمثقفين العرب، بل وحتّى عموم الناس، في نشر الحرية، ولكنهم "يصطدمون دائماً بعائق كبير هو قيَم الثقافة، أو الثقافات الدارجة، التي تقف حائلاً أمام نشر أنماط الحرية المختلفة. يُضاف إلى هذا أنّ هناك نسبة ضئيلة من هؤلاء تُدرك عقبة الجانب الثقافي. ولهذا تنصرف الورقة إلى إلقاء الضوء على العناصر المكوّنة لثقافة الحرية، وتبيان كيفية تَعارُض قيم الثقافات السائدة في الوطن العربي مع هذه العناصر، وكيف تُصبح عائقاً حقيقياً أمام انتشار الحرية بأنماطها المختلفة.
وتمتدّ ما يمكن تسميتها مشكلة الثقافة إلى مجالات البحث الأخرى التي يتناولها هذا الكتاب، وأكثرها أهمية بحث "تصوّرٌ لكيفيّة تحديث الهوية"، ومدخله فرضيّةُ ربط الهوية بالثقافة أيضاً، بمعنى أنّ "الثقافة العامة السائدة في مجتمعٍ ما أو في إطار جماعة ما، تمثّل هوية هذا المجتمع أو هذه الجماعة". فالثقافة الدارجة في أيّ مجتمع تمثّل مجموعةً من القيم المتنوّعة التي تربط الأفراد، وتنعكس في سلوكهم وممارساتهم ورؤيتهم للعالم وفنونهم أيضاً. ما الذي حدث على صعيد التطوّرات السابقة والحاليّة التي تعيشها المنطقة العربية، ومنطقة الخليج العربية على وجه الخصوص، التي هي موضع عناية الباحث؟
ما حدث هو بروز واقع ثقافي يتّصف بالجمود؛ واقع أوقف إعمال العقل في التفكير والتحليل بشأن عدد من القضايا المهمّة، والتي تمثل الهوية إحداها. ونجَمَ هذا عن مسيرة للتطوّر في اتجاهين متضادين. فعلى صعيد البنية التحتية، "شهدت معظم أنحاء الوطن العربي نهوضاً سريعاً تمثّل في بناء المدن الحديثة ومستلزماتها... لكنْ أمام التقدّم المادّي، توقّف التقدّم الثقافي والفكري". ويضيف الباحث: "بل وأكثر من ذلك، تراجع إلى مستويات لم تكن سائدة خلال القرنين الأخيرين"، إلى جمود فكري وثقافي ومظاهر انغلاق وتعصّب ورفض الآخر تحت شتّى الذرائع. وكلّ هذا "مهّد لظهور أفكار وممارسات وصلت إلى حد الإقصاء والتطرّف والعنف والإرهاب".
يضيء على مفارقة التقدّم عمرانياً والتوقّف فكريّاً
ويحدّد الباحث ثلاثة اتجاهات ثقافية في النظر إلى الهوية: "فهناك من يرى ضرورة المحافظة على الهوية التقليدية بحذافيرها، وكأنّ التحوّلات التي تمّت في المجتمع لا أهمية لها ولن تؤثر على الهوية. وهناك من يرى أنّ الآخر المتطوّر هو الذي يجب أن يُحتذى، ويرى نفسه ضمن إطاره الفكري والثقافي، خاصة العالم الغربي. وهناك فريق ثالث يرى الحفاظ على الجوانب الأساسية والمهمة للهوية التقليدية مع فتح المجال للأخذ بما يراه مناسباً من الثقافات الأخرى، ومع ما يتطلبه الواقع الجديد من متغيرات".
وتلخّص هذا التعدّد، بل والتناقض، كلمة "الأزمة" أو "الخلَل"، بتعبير الباحث. ويتركّز ذلك في "غياب طليعة مثقّفة وواعية تتصدّى لمسألة التحديث الثقافي، وتجدّد ثقافتها التقليدية بما يتلاءم مع التطوّرات المادية التي حدثت في مجتمعاتها، وتحافظ على القيم الإيجابية فيها". ثم ينتقل إلى الحديث عن العناصر المُراد تحديثها ثقافياً، وهي اللغة وطرق التفكير، والخطاب الديني، والفنون وإعادة الاعتبار للإنسان الفرد، ثم المعرفة التي حين تسود تكون بمثابة عِمادٍ لبناء المفاهيم والقيَم ورؤية الإنسان للحياة والعالم، ووسيلةً لتفسيرهما. وهنا يميّز بين المعرفة التقليدية، معرفة الكفاف، كما يمكن أن نصفها، النابعة والمرتبطة بظروف بيئة وحياة مقيّدة عقائدية وذاتيّة، والمعرفة الحديثة الموضوعية، "نتاج تجارب الإنسان ومغامراته الفكرية وفضوله وبحثه في المشكلات وحلها".
وتكاد ورقة "الأسُس الفكرية للمشروع الثقافي" أن تكون تتويجاً لأطروحات هذا الكتاب، بتقديمها لمقترحٍ جوهريّ يؤسّس لثقافةٍ قادرة على التجاوز والبناء في شتّى الجوانب، سياسيةً واجتماعية واقتصادية. أبرز أسس هذا الاقتراح هي، أوّلاً، رؤية جديدة للإنسان الذي هو محور الثقافة ومنتِجُها وممارسها والمعبّر عن روحها؛ رؤية تعاكس "النظرة السائدة عن الإنسان في مجتمعاتنا" الموبوءة "بمفاهيم وقيَم لا علاقة لها بالمفهوم المعاصر للإنسان ولا بالطبيعة الإنسانية الحقّة". وثانياً، إحياء دور العقل في وجه "ظاهرةٍ مِن أسوأ ظواهر العصر، هي الأصولية التي تمثّل أقصى أنواع التطرف. فالتفكير الأًصولي لا مجال فيه لإعمال العقل، فهو يصادره ويلغيه ويلغي الآخر". وثالثاً، العلم والتفكير العلمي بوصفه ركيزة، أي مشروعاً ثقافياً هدفه النهوض بأي مجتمع. ورابعاً، الواقعية قبل كلّ شيء، أي عدم الانفصال عن الواقع.
وهنا يلاحظ الباحث، بألمعية، أنّ معظم "الشعوب الخليجية تكاد تكون منفصلة عن واقعها". ويعلل الأمر بالقول: "هي تعيش وسط أكوام من البناء الحديث من الإسمنت ولكن تنتشر فيها ثقافة لا تعبر عن الواقع الحالي، لأنّ معظم مظاهرها يعبّر عن واقع المجتمعات السابقة، إضافة إلى كونها ثقافة تفتقر إلى الواقعية، التفكير السائد فيها غير واقعي كالخرافة والغائيّة والإفراط في الغيبيات".
* شاعر وروائي وناقد من فلسطين