صورتان من ألبوم الموت

04 سبتمبر 2024
عمل للفنان الفلسطيني مروان نصار
+ الخط -
اظهر الملخص
- في 21 ديسمبر 2023، تعرضت عمارة جيراننا لقصف بصاروخين قبيل الفجر، مما أدى إلى تدميرها بالكامل وسط مشهد مرعب من الدمار وصراخ الأطفال.
- في 11 يونيو 2024، تكرر القصف مستهدفًا منزلًا مقابلًا لنا، مما حول المكان إلى جحيم وأدى إلى تناثر أثاث الجيران، مع تزايد الاعتياد على مشاهد الدمار.
- بالرغم من جهود الإنقاذ، إلا أن الاعتياد على الدمار يجعل الناس أكثر قسوة، مع ملاحظة أن مصير الشجر المتحطم يشبه مصير البشر في الحرب.

ذاكرة السجين لا تختلف كثيراً عن ذاكرة الحرب، المشهد نفسه يتكرّر يوميًا غير أنه في الحرب يختلف توقيت الحدث. في الحادي والعشرين من كانون الأول/ ديسمبر 2023، بعد شهرين ونصف من اندلاع الحرب الشرسة على غزّة، قصف شديد بصاروخين قبيل الفجر يطاول عمارة جيراننا بمسافة لا تبعد أكثر من ثلاثة أمتار عن عمارتنا والمكان الذي كنت نائما فيه بالتحديد. لك أن تتخيل أن تصحو مفزوعا في منتصف غيمة كثيفة خانقة من الأتربة والدخان والعتمة المحيطة بك من كل ناحية وتنهال عليك النوافذ كاملة بألواحها الزجاجية والستائر وتسمع كل أصوات التحطم والإنهيارات من حولك ولا تشعر باللزوجة الدافئة من الدم الذي يسيل من أنحاء جسدك ولا تعرف كيف تم انتشالك من هذا الجحيم المباغت غير المتوقع والمتخيل. 

هذا ما حدث لي. لا تزال العتمة تزيد من ربكة المشهد الذي اختلط بالصراخ والدعوات لانتشال الضحايا والمصابين من جيراننا. ما زلت أتذكر بكاء أولادي وصراخهم وهم ينظرون إليَّ بحيرة واستغراب وخوف. كان الأمر أشبه بحلم مفزع أو كابوس ثقيل، لا أحد يصدق ما جرى. كان الدمار مريعا في المكان والجثث والمصابون يتم إنزالهم بصعوبة من الطوابق العالية فقد تم تدمير الأدراج والسلالم بشكل شبه كامل وأكوام الحجارة والإسمنت وأثاث الجيران وأمتعتهم تسدّ مدخل بيتي وممراته والشارع أيضا، ليس سهلاً أن تصف الكارثة وقت حدوثها بالشكل الذي يعطيها حقها. صدمة المشهد تعطل اللغة والقدرة على رسم صورة كاملة. ما ورائيات المشهد أقسى وأعمق من الدمار الخارجي. إنها المعاناة التي ستتخذ كل ما يتصوّره العقل من تعبٍ وضنك وعذاب لا أحد يعرف متى ينتهي. 

إنها المعاناة التي ستتخذ كل ما يتصوّره العقل من تعبٍ وضنك، وعذاب لا أحد يعرف متى ينتهي

أقسى ما يعانيه الإنسان التشرد والخروج من مكان سكناه ولا يجد له مأوى يوفر له العيش الذي يحفظ له آدميته وإنسانيته واستمرارية الحياة. لك أن تتخيل مرة أخرى دمارا بدون مقومات من مياه أو طعام أو كهرباء، وعليك أن تنجو وتبقى وتستمر ومطلوب منك أن تصمد وتتعايش مع السيئ لأنك لا تعرف بعد ما هو الأسوأ. مشاهد عبثية تخلو من المنطق والعقل، فيما الدهشة الصامتة سيدة المكان، بمعنى أنك تموت وتقتل ولا أحد يسمع عنك أو حتى يكترث. كل المكان ترك ليواجه مصيره بنفسه. بعد أيام من القصف يعتاد الجيران وسكان المنطقة على ما جرى ويصبح الخراب والركام جزءاً مألوفاً من صورة الحي. كلما وقعت عيناي على مشهد الدمار الباقي حتى الآن تتجدد الذاكرة يعود بي شريط المشهد إلى أوله ولا أعتقد تقنيات السينما الحديثة تستطيع أن تختزل وتصور لحظة ما حدث. هناك أشياء شعورية ونفسية لا تصل لها الكاميرا ولا تتسلل لها مهارة المخرج. سأتذكر كل شيء وكل ما حدث لي وللمكان ولا سبيل لنسيان ما حدث.

اليوم الحادي عشر من حزيران/ يونيو 2024 قبيل الفجر مرة أخرى يستهدف القصف المروّع منزلا مقابلاً لنا لا يختلف الدمار والخراب عن سابقه وعن أي قصف آخر حتى مشهد الضحايا والمصابين أيضا هو نفسه. في أقلّ من ثانية يتحول المكان إلى جحيم وفي طرفة عين ترى أثاث ومقتنيات جيرانك قد تناثرت في بيتك وفي الشارع. إنه انتهاك لخصوصية بيت آمن بكل ذكرياته وما به من أشياء يحرص أهله على حجبه عن عيون الناس؛ القصف لا يعترف بكل هذا ولا يكترث لمشاعر المستهدَفين والضحايا إنه جريمة بكل أبعادها الإنسانية والنفسية والمعيشية. 

ما بُني في عقود طويلة من تعب وعناء وانتظار وحب ينتهي في ومضة زمنية لا يمكن حسابها ذهنياً

ألبوم صور يتناثر هنا وهناك، الملابس في خزاناتها أصبحت مكشوفة وملقاة على الرصيف وتحت الردم، ماذا يدور في مخيلة المنقذين والمسعفين والمعاونين من الجيران حين يمسكون ويلمسون ملابس لا تقلّ حرمة عن حرمة النساء والصبايا وسكان المنزل المقصوف. في كل قصف هناك زاوية يُرَى منها الحدث بصورة مختلفة، يتشابه الخراب والدمار وتختلف الحكايات التي خلف كل كارثة تلحق بأي بيت من بيوت غزة على امتدادها من الشمال إلى الجنوب ومن شرقها لغربها. الغريب في الأمر أنه كلما طال أمد الحرب قل الشعور بالفزع، ببساطة تصبح هناك ألفة شعورية بين الموت والمكان، بين الخراب ورائحة الدخان والبارود، إنه الاعتياد على المشهد نفسه قد يبلد الإحساس ويصبح منظر الدم عاديا. هذا في حدّ ذاته ينعكس سلبًا على المنظومة السلوكية والنفسية للناس. لا عجب إن أصبح الناس أكثر قسوةً وخشونة في التعامل فيما بينهم وأكثر جرأة على علاقاتهم يعضهم ببعض. 

هذا ما شاهدته خلال الحرب اللعينة. بالرغم من هبّة الناس المخلصة لإنقاذ جيرانهم إلا أن هذا يتسرب في اللاشعور ويتحوّل إلى ضرب من ضروب الانشغال بالحياة ومستلزماته وينقفل المشهد بعد وقت قصير جداً كأن شيئا لم يكن. ما لفت انتباهي في قصف اليوم رائحة الهواء فقد تشبعت، بالرغم من الغبار والبارود، برائحة لحاء الشجر الذي تقصف وتحطّم وتهشم من ضخامة القصف، أنظر إلى الشجر المحيط بسور بيتنا كيف تحول إلى لون رمادي عليل وقد تكسر بشكل مؤلمٍ وكأنها توصل رسالة مفادها أن مصير الشجر لا يختلف عن مصير البشر. شجرة عمرها ربع قرن ينتهي وجودها في أقلّ من لحظة كما ضحايا القصف الذين قضوا في رمشة عين. لقد أنهكنا تنظيف بيتنا من ركام جيراننا وتحت كلّ حجر أو نافذة تجد بقية شيء وأشياء تثير الحزن والألم.

ما بني في عقود طويلة من تعب وعناء وانتظار وحبّ ينتهي في ومضة زمنية لا يمكن حسابها ذهنياً، يا لسخرية الأقدار وهي ترفع الغطاء عن حقائق وجودية يغفل عنها الناس جميعهم، أن الحياة بكل ما فيها من تشويق وإثارة ومتع لا تعدو أن تكون قفزة في حلم قصير جدًا وأنّ الناس حظهم أن يكونوا ضحايا كوارث لا دخل لهم بها كما الحرب الدائرة على غزّة يقتل فيها الآلاف ويشرّد الآلاف ويصاب الآلاف ولا شأن لهم بالحرب.


* شاعر من غزّة

نصوص
التحديثات الحية
المساهمون