من الواضح أنّه لدينا، في السنوات الأخيرة، اهتمام متزايد بين القرّاء العرب لقراءة الأدب المترجم من دوائر خارج المركزية الأوروبية، وخاصّةً الروايات التي تكشف عن أدب أصيل غير معروف بما فيه الكفاية إلّا ما يمرّ منه عبر اللغات الأوروبية المركزية (الإنكليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية).
ومن هذه الآداب في "أطراف" المركزية الأوروبية، لدينا آداب شعوب البلقان، والتي على الرغم من قربها من الشرق بالمفهوم الحضاري، على اعتبار أنّها كانت تُعتبر ضمن "الشرق الأدنى" حتى مطلع القرن العشرين، بقيت غير معروفة، أو مرتبطة بالظروف السياسية التي حكمت البلقان والعالم العربي في القرن العشرين.
وهكذا، على سبيل المثال، مع تأسيس "حركة عدم الانحياز" وانعقاد مؤتمرها الأوّل في بلغراد عام 1961، بدأت حركة ثقافية للانفتاح على أدب شعوب هذه الدول، ونشطت ترجمة الأدب العربي إلى لغات يوغسلافيا السابقة؛ سواء عبر اللغات الأُخرى (الإنكليزية والفرنسية وغيرها) أو عبر اللغة العربية مع بروز جيل جديد من المستشرقين في الستّينيات، والذين اعتبروا التعريف بالأدب العربي من مهامهم (نذكر حسن كلشي، وسليمان غروزدانيتش، وراده بوجوفيتش وغيرهم) وترجموا مختارات من الأدب العربي؛ من امرئ القيس إلى عبد الوهاب البياتي.
تأخّرَت الترجمة بين العربية ولغات البلقان حتى الستّينيات
وفي المقابل، نجد في مصر الناصرية انفتاحاً سياسياً وثقافياً تجاه يوغسلافيا التيتوية وصل إلى حدّ فتح قسم للغة الرئيسية في يوغسلافيا (الصربوكرواتية) في "جامعة عين شمس" ونشر روايات شهرت هذا الأدب الذي أصبح معروفاً في أوروبا بعد فوز إيفو أندريتش (1882 - 1975) بجائزة نوبل للأدب عام 1961؛ مثل روايتَيه "جسر على نهر درينا" بترجمة سامي الدروبي و"الآنسة" بترجمة جمال الدين سّيد محمد. والفارق هنا هو أنّ الدروبي ترجم أندريتش عن الفرنسية بينما كان سيّد محمد قد بدأ بتعلّم اللغة الصربوكرواتية في "جامعة عين شمس" قبل أن يُتابع دراسة الماجستير والدكتوراه في "جامعة بلغراد"، ليُبدع لاحقاً في ترجمة عدّة روايات من يوغسلافيا السابقة من اللغة الأصلية.
سامي الدروبي وتلميذه
وفي ما يتعلّق ببلاد الشام، التي كان بعضُها (سورية) جزءاً من هذه الحالة مع "الجمهورية العربية المتحدة" (1958 - 1961)، فقد بدأت الترجمةُ مع بروز المترجم المعروف سامي الدروبي الذي كان أوّلَ من ترجم أندريتش إلى العربية من الفرنسية، وأصبح لاحقاً سفيراً لسورية في يوغسلافيا التي تخرّج آلاف الطلّاب من جامعاتها، وانشغل بعضهم بالسياسة والأدب وعاد ليترجم بعض الأعمال الأدبية.
من هؤلاء، نذكر زهير خوري الذي درس في بلغراد واشتغل في السفارة السورية خلال وجود الدروبي على رأسها، والذي ترك تأثيره عليه وشجّعه على إكمال ما بدأه من ترجمة أندريتش من الفرنسية. وبالفعل، فقد برز خوري لاحقاً مع "حكايات من البوسنة" (المؤسّسة العربية للدراسات والنشر، 1996) مع مقدّمة لعبد الرحمن منيف الذي درس أيضاً في بلغراد واعتبرَه "تلميذ الدروبي"، ثم ترجم خوري لـ أندريتش "إيماءات" (دار النضال، 1999)، كما ترجم روايته "الفناء اللعين" (دار النضال، 2000)، على الرغم من أنّ المترجم السوري وليد السباعي كان قد ترجمها أيضاً عن الصربية (صدرت أوّلاً عن "اتحاد الكتّاب العرب" عام 1992 ثم في طبعة جديدة عام 2019 عند "دار نينوى" في دمشق).
ومن ناحية أُخرى، أصبحت دمشق تُعتبر في العقود الأخيرة من القرن العشرين مركزاً للتعريف بالأدب البلغاري لكثرة ما نُشر بالعربية من ترجمات من الأدب البلغاري بدأها الشاعر أحمد سليمان الأحمد عن الفرنسية، وارتقى بها كثيراً المترجم ميخائيل عيد عن البلغارية مباشرةً.
أصبحت دمشق وبيروت مركزَين للتعريف بالأدب الألباني
وفي عمّان، التي أصبحت تُعتبر، من باب المجاز، "مركزاً" للدراسات البلقانية لكثرة ما نُشر فيها، خلال العقود الثلاثة الأخيرة، من مؤلّفات وترجمات من أدب وتاريخ البلقان، برز لدينا اسمان أيضاً من خرّيجي يوغسلافيا السابقة: إسماعيل أبو البندوة أوّلاً وهاني غرايبة مؤخراً.
كان أبو البندورة قد بدأ مبكراً مع نشره في عام 1992 مختارات قصصية لـ أندريتش وميشا سليموفيتش (1910 - 1982) بعنوان "قصص يوغسلافية"، ثم نشر في 2007 رواية سليموفيتش المعروفة "القلعة" وأتبعها بمختارات قصصية جديدة لـ أندريتش في 2021 بعنوان "جسر على نهر جيبا". وفي غضون ذلك، انشغل أيضاً بترجمة عدّة روايات من أدب البوسنة، ابتداءً من "المرجة الخضراء" لـ أدهم مولى عبديتش، والتي صدرت عام 1898 وتُعتَبر أوّل رواية في البوسنة (الآن ناشرون، 2018) ومروراً برواية "الشهيد" لـ زلهاد كولتشانين (وزارة الثقافة الأردنية، 2008)، و"القناق" لـ كامل سياريتش (الآن ناشرون، 2018).
أمّا هاني غرايبة، فقد برز مؤخَّراً بترجمة عن الصربية لرواية "حمام بلقاني" للكاتب والمترجم الصربي المعاصر فلاديسلاف بايتس (وزارة الثقافة الأردنية، 2019)، والتي لم تحظ بما تستحقّ من تغطية؛ سواء لجهة مكانة الكاتب أو لجهة إشكاليات الرواية وما تقدّمه.
ترجمتان في عمّان
ولكن، مع هذه المعطيات الأخيرة تبرز بعضُ الإشكالات؛ سواء لتعدُّد الترجمة من عدّة لغات أو لتعدُّد ترجمة العمل الأدبي من اللغة الأصلية نفسها. وإذا كان الأمر قد يبدو مفهوما ضمن التنافُس بين بيروت ودمشق، فإنّه يبدو سوريالياً حين تصدر في عمّان ترجمتان مختلفتان لرواية واحدة ("القلعة" لـ ميشا سليموفيتش) بفارق سنوات فقط.
وفي ما يتعلّق بالإشكالية الأُولى (تعدُّد الترجمة من عدّة لغات)، ينطبق عليها ما لدينا من ترجمات الأدب الألباني الذي أصبحت دمشق وبيروت مركزَين للتعريف به، مع الفارق بطبيعة الحال. فقد اختصّت دمشق بترجمة روايات إسماعيل كاداريه عن الألبانية مباشرةً بتوقيع عبد اللطيف الأرناؤوط ابتداءً من "جنرال الجيش الميت" (دمشق، 1981)، بينما اختصّت بيروت بترجمة روايات كاداريه عن الفرنسية والإنكليزية.
ويُلاحَظ هنا أنّ ترجمات كاداريه من الفرنسية والإنكليزية أفضل من تلك المترجَمة من الألبانية لسبَبين على الأقلّ؛ يتعلّق الأوّل بأنّ الرواية الألبانية حين تُترجَم إلى الإنكليزية أو الفرنسية يجري تحويلها إلى محرّر مختصّ بعد الترجمة، وهو ما يجعل ترجمتها سلسة لمن يعرف الإنكليزية أو الفرنسية طبعاً. وأمّا السبب الثاني فهو تشكُّل تقاليد للترجمة الأدبية من الإنكليزية والفرنسية في مصر ولبنان تقارب القرنين، وبروز عدّة أجيال من المترجمين المتمكّنين.
أمّا في ما يتعلّق باللغتين الألبانية والصربية وغيرها من لغات البلقان، فالأمر لا يزال مع الجيل الأوّل الذي بدأ بالترجمة مباشرةً من تلك اللغات، أي أنّه أسّس أو يؤسّس لتقاليد الترجمة في تلك اللغات، ولذلك يلاحَظ أنّ ترجماته الأخيرة أفضل من الأُولى. وبالإضافة إلى ذلك يلعب دورَه أيضاً نقص أو غياب دور المحرّر أو المراجع الذي يعرف اللغتين ويساهم في رفع مستوى الترجمة إلى الحدّ الأقصى.
■ ■ ■
وإذا أخذنا بعين الاعتبار، أو بحسن النية، "الفوضى" التي كانت موجودةً قبل التزام دُور النشر بحقوق الملكية الفكرية، لوجدنا أنّ روايةً واحدة لـ إسماعيل كاداريه تُرجمت من ثلاث لغاتٍ في دمشق وبيروت وصدرت بعناوين مختلفة، ممّا يُوحي أنّها ثلاث روايات مختلفة: "الحصن" من ترجمة عبد اللطيف الأرناؤوط عن الألبانية، و"طبول المطر" من ترجمة محمد عضيمة عن الفرنسية، و"الحصار" من ترجمة محمّد درويش!
ولكن، في عمّان لدينا أغرب من هذا؛ فقد أصدرت وزارة الثقافة الأردنية رواية "القلعة" لـ ميشا سليموفيتش عام 2007. ولكن في زيارتي الأخيرة للعاصمة الأردنية، وجدتُ أن دار نشر جديدة (خطوط وظلال) أعادت العام الماضي نشر هذه الرواية مترجمةً عن الإنكليزية بتوقيع المترجم السوري أسامة إسبر. وكانت المفاجأة أنّ مدير الدار لم يكن يعرف أنّ الرواية صدرت عن وزارة الثقافة قبل أربعة عشر عاماً مترجمةً من الصربية بتوقيع إسماعيل أبو البندورة.
أمّا المفاجأة الأُخرى في المكتبة الغنية لهذه الدار، فقد كانت تتمثّل في أنّني لم أجد الترجمة الأُولى من الصربية لرواية فلاديسلاف بايتس "حمّام بلقاني" بتوقيع هاني غرايبة، والتي نشرتها وزارة الثقافة الأردنية عام 2019، بل وجدتُ ترجمة للرواية عن الإنكليزية بتوقيع تسبيح عبد السميع، والتي صدرت عام 2021 عن "العربي للنشر والتوزيع" في القاهرة.
وفي الحقيقة لدينا هنا أكثر من إشكالية. ففي مقدّمة المترجم الأردني ما يدلّ على أنه على علاقة مع الكاتب، حتى أنه أخذ موافقته على حذف مقطع من الرواية يتعلّق بتاريخ المنطقة، بينما كان الأجدر أن يثبّته ويعلّق عليه، بينما تركه المترجم المصري كما هو ولم يجد حاجة للتعليق عليه. وعلى افتراض أن المترجم الأردني حصل على موافقة الكاتب، يلاحَظ أنّ الطبعة المصرية تحمل شعار وزارة الثقافة الصربية وتفيد بدعم الوزارة لها، وهذا لا يجري طبعاً دون علم المؤلّف.
ومن ناحية أُخرى، يلاحَظ أنّ الطبعة المصرية حظيت بوجود محرّرة (إيزيس عاشور) بالإضافة إلى المراجعة اللغوية (كارم أحمد)، بينما لا تكشف البيانات في الطبعة الأردنية عن ذلك، وهو ما يجعل الطبعة المصرية تتقدّم من حيث السلاسة في القراءة. ولكن الطبعة المصرية تشكو من أنّ الترجمة من الإنكليزية جعلتها تتقيّد بقراءة أسماء الأشخاص والأماكن كما تُقرأ بالإنكليزية وليس كما تُقرأ في الصربية. وهكذا، على سبيل المثال، يتحوّل بطل الرواية بايتسا إلى باجيكا.
ومع ذلك تنفرد الطبعة المصرية بالهوامش التي تفيد القارئ في استيعاب سياق وأحداث الرواية، بينما تكاد الطبعة الأردنية تخلو من الهوامش. ومع ذلك ليست كثرة الهوامش ميزةً خاصّة إذا لم تكن دقيقة، أو كانت الأسماء أو المصطلحات فيها مقروءة بشكل غير دقيق.
وفي كل الأحوال تحتاج الروايتان إلى مراجعة مفصَّلة ومقارنة، كما تحتاج هذه الحالة (تعدُّد الترجمة من اللغة الأصلية) إلى أكثر من ذلك... إلى ورقة في ندوة علمية عن هذا الموضوع.
* كاتب وأكاديمي كوسوفي سوري