رنا عيسى.. "مساحات" للفنّ والذاكرة

24 سبتمبر 2023
رنا عيسى
+ الخط -

يقدّم مهرجان "مساحات" الذي تأسّس في أوسلو منذ ثمانية أعوام، تصوّراً مختلفاً حول الهوية العربية يقوم على تعدّدها الثقافي واللغوي والإثني وطرحها للنقاش بعد الانتفاضات العربية التي اندلعت عام 2011 ولا تزال تداعياتها حاضرة إلى اليوم.

استمرّت هذه المساحة التشاركية لتبادل المعارف والخبرات والإبداع، مع اختلاف الثيمة التي تتناولها في كلّ عام. والخميس الماضي، انطلقت دورة جديدة من التظاهرة في العاصمة النرويجية، مركّزةً على ثيمة "أن نتذكّر" كعملية إنتاج فنّي وثقافي، ضمن عروض موسيقية، وجلسات حوار، وعروض أفلام، وحلقات قراءة، تتواصل حتى مساء اليوم الأحد.

تقول الباحثة والمترجمة رنا عيسى، المديرة الفنّية للمهرجان، في حديثها إلى "العربي الجديد"، "إن 'مساحات' تغيّر كثيراً منذ البدايات سنة 2015. أوّلاً تغيّر اسمنا، فنحن عندما بدأنا كان تركيزنا فقط على الثقافة والوضع السوريَّين. أمّا اليوم، فقد أصبحت المؤسّسة تعتني بالثقافة العربية عامّة، وذلك بعدما ثابر جمهورنا من الجاليات العربية على المهرجان منذ تأسيسه، وبعد كلّ ما حصل في العالم العربي في السنوات العشرة الماضية، إذ كبرت الجالية العربية في النروج لتصبح الجالية الأكبر بين المهاجرين إلى هذا البلد".

تكشف لنا الهجرة كم نشبه بعضنا نحن العرب

تضيف: "اكتشفنا في هذه الهجرة كم نشبه بعضنا نحن العرب، ثقافياً وسياسياً وتاريخياً، إذ لدينا الكثير من القواسم والهموم المشتركة. وبالرغم من أعدادنا المتزايدة في النرويج، لا تعتني المؤسسات الثقافية بنا ولا توجّه دعوات للفنانين والمثقفين العرب إلّا لماماً، لذلك غيّرنا أيضاً منهجية عمل المهرجان وقرّرنا أن يقوم عملنا الأساسي على وضع الثقافة العربية في قلب المؤسّسات الثقافية في النرويج. فأخذنا تمويلاً من بلدية أوسلو، وبدأنا بإبرام شراكات مع المؤسّسات الثقافية الريادية، العامّة كما الخاصّة، فنحن نعمل مع 'المتحف الوطني' على سبيل المثال، ومع المهرجانات والقاعات الموسيقية الكبيرة في أوسلو، ومع أهمّ دور السينما والغاليريات في المدينة، واستطعنا أن نُعرّف الجمهور النرويجي العريض على التنوع والغنى في الثقافة العربية، ما يُسهم بتكرار دعوة فنانين ومثقفين عرب إلى محافل أُخرى في النروج بعد حضورهم على مسارحنا ومنابرنا أوّلاً".

وتوضّح: "بذلك نعتبر أنفسنا مسوّقين فعّالين للثقافة العربية في النرويج، ونساهم في تقوية التواجد الثقافي للعرب عالمياً. ما نفعله للثقافة العربية تقوم به دول، ولكن للأسف الدول العربية منعكفة عن الثقافة إجمالاً وإن كان هناك استثناءات".

"نهتم في 'مساحات' بأن يعيش أبناء الجالية العربية في النرويج في بيئة حاضنة لا تميز ضدّهم كونهم مختلفين ثقافياً أو دينياً أو إثنياً عن الأكثرية في البلد"، تتابع عيسى التي تستدرك: "لذلك نعمل كي نعرّف هذه الأكثرية بالتنوّع الثقافي العربي الذي نفتخر أن نكون تربّينا عليه قبل انتقالنا إلى أوروبا. ومن خلال تجذير ثقافتنا في قلب الحدث الثقافي النرويجي، نسعى إلى أن نعيد الاعتبار لأهالينا وأوطاننا في هذا الشتات الذي لم نختره، ونحن نعمل في حقل ثقافي عالمي وننافس ثقافات أوروبية تحصل على أضعاف مضاعفة من التمويل للفنانين والمثقفين، ولكننا نجد أن العرب العاملين في الثقافة لديهم حسّ عميق بأهمية الفن والثقافة، فينتجون ثقافة ومعنى نقديّاً وذا خيال سياسي عميق ومتجدّد".

وتقول عيسى: "قد تكون أحوال بلادنا المزرية ما جعل الثقافة العربية من أفضل ما يقدَّم على الساحة الثقافية العالمية، فنحن نخترع أوطاننا بالكلمات والصور والأفلام والموسيقى ونعبّر عن الخسارة والفقدان والعنف الفظيع الذي يطالنا، وأعمالُنا الثقافية والفكرية من العمق ما يجعلنا نحاكي ثقافات عظيمة أُخرى تعيش هي أيضاً في خضمّ تغيير سياسي وتاريخي فظيع في وحشيته. ومن خلال فهمنا لقيمة الثقافة والتصاق اهتمامنا بالثقافة بحياة أفضل للبشر، نقدّم للجمهور الأوروبي والنرويجي نظرة ثقافية تربط الواقع بالتعبير الثقافي، وليس هذا بديهياً هنا في بلاد أصابتها التخمة والضجر منذ سنوات".

محاولة لإخراج الثقافة العربية من تسويق مرتبط بالشتات

وتبيّن أنه "بالرغم من أننا نركّز على الثقافة العربية (فهذا ما نعرفه حقّاً)، نحاول إخراج الثقافة العربية من تسويق هوياتي قومي أقلّوي أو هامشي مرتبط فقط بالشتات.على العكس نحن مقتنعون بأن الفنانين والمفكرين والمثقفين والناشطين العرب لديهم ما يقولونه عن العالم برمّته، وأنّ لأصواتهم أهمية عالمية ذات قيمة نظرية عامّة ولا تختصر بالأماكن التي تحدّد هوياتهم الرسمية. هذا ما يجعل الجمهور النرويجي يتفاعل معنا، فالبرنامج الذي نقدمه ذو راهنية واضحة لأهل البلد، كما لجمهورنا العربي الضيق".

ينظر مهرجان "مساحات" في دورته الحالية، بحسب عيسى، في قضايا مثل الحقّ في التاريخ، والسرديات المتنافسة، والأرشيفات الوطنية وغير الرسمية، وسياسات الذاكرة، والتساؤل عن الأدوار التي تلعبها الذاكرة والأرشيف في عمليات الإنتاج الفنّي والسرديات الوطنية، حيث تشكل هذه الأسئلة الخيوط العريضة لبرمجة المهرجان، والذي يتضمّن حفلات موسيقية وعروض أفلام وحلقات نقاش وتظاهرات فنّية وطعامية فريدة وعروضاً ساخرة وغيرها".

وتنبّه المتحدّثة إلى أن "لدى النرويج باع طويل في الانخراط في المنطقة العربية من خلال السياسة والدبلوماسية والمساعدات الإنسانية، وغالباً ما يشارك الخبراء النرويجيون آراءهم حول المنطقة مع الجمهور، في حين أن العرب النرويجيين، على الرغم من خبرتهم المهنية، نادراً ما تجري دعوتهم من قبل وسائل الإعلام لمشاركة وجهات نظرهم. ويصادف هذا العام أيضاً مرور عشرين عاماً على غزو العراق، وثلاثين عاماً على 'اتفاقية أوسلو'، وهما حدثان كانت النرويج لاعباً أساسياً في تشكيلهما، وكان لهما تأثير جسيم على المنطقة كما يتّضح من الواقع الحالي. كما يُعدّان من الأسباب التاريخية التي دفعت الجالية العربية لتكون أكبر جالية شتات في النرويج".

وتتابع عيسى: "بتسليطنا الضوء على موضوع الذاكرة، يهمّنا أن يتخطّى جمهورنا من الجالية العربية الإحساس بأنّنا منسلخون عن ماضينا بعد الشتات، ونجادل بأن تاريخنا هو أيضاً جزء من السردية التاريخية للنرويج، ونطالب المؤسسات الثقافية النرويجية بالاعتراف بحقّنا بالمطالبة بإدراج تاريخنا كعرب بتاريخ النرويج، ليس فقط لأنّ النرويج يتدخّل في الشؤون العربية منذ عقود، ولكن أيضاً لأننا أصبحنا مواطنين هنا (وقد نجازف ونبسط السردية قليلاً لنقول إنّنا هنا بسبب هذه التدخّلات الغربية في بلادنا) وماضينا أصبح جزءاً من ماضي هذه البلاد. ويضمّ البرنامج مشاركين من النرويج ينتمون إلى فئات مهمَّشة تاريخياً في هذا البلد، كمواطنين من إثنيات أفريقية ومثقفين ينتمون إلى الطبقة الكادحة ويبحثون في شؤونها".

نادراً ما يُدعى العرب النرويجيّون لمشاركة وجهات نظرهم

استضاف المهرجان المؤرّخ المصري خالد فهمي في محاضرة حملت عنوان "استعادة التاريخ: الشعب، السلطة والأرشيف"، أعقبها نقاش مع الباحثة الأميركية ميشيل تيسدل، كما عُقدت جلسة بعنوان "استذكار المجتمعات والجماعات.. الممارسات الأرشيفية في مجال الفنون والنضال ضدّ القمع" شاركت فيها سناء يازجي، مؤسِّسة "ذاكرة إبداعية للثورة السورية" والفنّانة والناشرة المصرية مها مأمون والفنانة النرويجية سيلي ستوريلي.

وتحت عنوان "الماضي الذي لا يزال قائماً: وجهات نظر من العراق وفلسطين"، تحدّث كلّ من عايدة القيسي، المؤسِّسة المشاركة للموقع العراقي المستقل "جُمّار"، حول عراق ما بعد تشرين الأوّل/ أكتوبر 2019 ومآلات مطالب الشباب بالتغيير، وتحدّث نديم خوري عن النزعات الحالية في مفاوضات السلام التي تتجاوز الفلسطينيين لتطبيع العلاقات بين "إسرائيل" والدول العربية، كما أُقيمت حفلات موسيقية للفنانين: الفلسطينية هيا زعاترة، والأردني يزن زيادات (تومبا)، وفرقة "طرب باند".

آداب وفنون
التحديثات الحية
المساهمون