رشيد الضعيف: رواية لحظة الانفجار

28 نوفمبر 2024
في الرواية خصوصية تأتي من خصوصية بيروت نفسها
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- تصور الرواية انفجار بيروت كمذبحة تعكس الشرخ العميق في المدينة وحياة سكانها، مركزة على شخصيات مثل زينة وابنتها وشقيقتها، وتبرز البيئة الفاسدة التي أدت إلى تحطيم لبنان.
- تتناول حياة زينة في بيروت وسط الجائحة وانهيار العملة، وتظهر علاقتها بالمدينة كحب وصداقة وسبيل للعيش، بينما تسعى للحصول على تأشيرة لابنتها.
- تعكس الرواية شعور زينة بأن الانفجار هو الأبد، وتبدأ بفقدانها لزوجها، مقدمة نصًا يعكس اللحظة التي انفجر فيها الكون.

ليسَ من قبيل المصادفة أن يحدثَ الانفجار وسطَ الرواية، أو في منتصفها؛ لأنَّه شرخٌ أصابَ بيروت، وأصاب الحياة العادية في مقتل. ولأنَّ الروائي اللبناني رشيد الضعيف (1945)، في روايته الأخيرة "ما رأت زينة وما لم ترَ" (دار الساقي)، يعرض انفجار بيروت كما لو أنَّه يصوّر مذبحة؛ أداتها البلّور المكسور وبيئة الفساد التي أودت بلبنان وملأته شروخاً، بل وحطّمته تحطيم الزجاج.

ربما من المثاليَّة أنَّ نقرأ لبنان في الشخصيات القليلة التي تعرضها الرواية، وهي تقتصر على زينة وابنتها وشقيقة زينة، ماري، والعائلة التي تعمل لديها، والمكوّنة من سوسن وزوجها فيصل وابنهما المسافر.

لكن في لحظة، عندما يحدث الانفجار، ويتهاوى ذلك العالم الذي سمَّم حياة ساكنيه، يصبح لبنان ليسَ مصائر أهله، بل هو الحطام البلّوري الذي يهمي على ساكنيه. ورواية الضعيف ترسم تلك اللحظة ببراعة قلَّ نظيرها، أو إنَّها براعة لأنَّها صوَّرت الواقع غير المعقول الذي لا يُمكن أن يحدث سِوى في بلدٍ مثل لبنان، حيثُ خسرَ الناس أموالهم في البنوك، بلا محاسبة أو استرداد حقّ أحد، وخسرَ الناس أحبّاءهم وممتلكاتهم في تفجير الرابع من آب/ أغسطس 2020، أيضاً بلا محاسبة أو استرداد حقّ أحد.

تهاوى ذلك العالم مثل حطام بلّوري يهمي على ساكنيه

لكن مع ذلك، يمكن أن نقرأ في الرواية عالم الشخصيات نفسها، مثل زينة التي تعمل في منزل سوسن وفيصل، وتمضي الجزءَ الأول من النهار تساعد العجوزين في ترتيب شؤونهما ويومياتهما، إذ تشرف على إحضار حاجاتهما من الخارج. ويبدو أنَّ الخارج تعطّل لديهما مع سنة الجائحة، واستمرّ ذلك التعطّل عن الخروج بعد انتهاء وباء كورونا. وهو تعطّل عن الخروج لا لأنَّ النص يحدث إبَّان نهاية الوباء، وإنّما بكلمات تختزل واقعاً أعمَّ وأشمل، نعرف أنَّ العجوزين تعطّلا عن الخروج، لأنَّ الخارج استوحش واحتدَّ، بخاصة في زُحام بيروت وانهيار عملتها.

أيضاً، في النص خصوصية تأتي من خصوصية بيروت نفسها، التي يقول الراوي إنَّها غارقة في "فوضى محكومة بمنطق باطن لا يدركه بالحدس إلّا المقيمون طويلاً فيها". مع ذلك، فإنَّ الإدراك بالحدس لا يحصل فقط بالإقامة طويلاً في مدنٍ تشبه بيروت، حيث لا سبيل واحداً لقراءة واقعها المركّب، إنّما يحصل الإدراك بالحدس في علاقة الحبّ، وفي الصداقة الطويلة. وبيروت بالنسبة إلى زينة التي بقيت في بيروت، وقصارى جهدها أن تحصل ابنتها على "فيزا" (تأشيرة)، خارج هذا الجحيم، بيروت بالنسبة إلى زينة هي حبٌّ وهي صداقة، وقبل ذلك، هي سبيلُ عيش، وبحرها ذكرى حبيب مفقود.

رشيد الضعيف في باريس، 2007 (Getty)
رشيد الضعيف في باريس، 2007 (Getty)

تظنّ زينة أنَّ الانفجار هو الأبد. إلا أنَّ الراوي سرعان ما يعلّق على ظنّها بالقول إنَّه "أبد الآبدين الذي يكثر الكلام عليه في الكنيسة كل يوم أحد". ولشدّة هذا التفجير مع ما نسفَ من اعتقادٍ بأنَّ ساكني بيروت لا يسكنون على أرضٍ صلبة، بل يسكنون في رمادٍ حروب سابقة، وفي عسف الفساد والعنف. وللاعتبارات هذه، كأنَّ الراوي أراد أن يسبغ على الانفجار صفة القداسة، وهو ليسَ بمقدّسٍ إلّا في مدنٍ تُعمِّد أبناءها بالنار والخوف، بخاصة أنَّ الرواية بنت توقّعاتها بالكارثة بسقوط تمثل العذراء وتحطّمه صباح يوم التفجير.

نعرف منذ الصفحات الأُولى للرواية، التي تقع في 112 صفحة - كانت كافية لقول كلّ هذا - نعرف أنَّ زينة فقدت زوجها بغرق الباخرة التي كانت متوجهة إلى أميركا، وبقي في وجدانها خاطرُ أن يستدعيها زوجها وأن يبدآ حياة جديدة. لكن هذا لم يحدث، وبدلاً منه، استمرت زينة تتأمل زوجها ظلَّاً هائماً فوق المياه، يلمع عندما تحلّ العتمة مثل روحٍ غريقة أخذها البحر. ونصّ الضعيف بمفرداته ومعالجته التي تختزل تلك اللحظة التي انفجر عندها الكون مع التصاق الزمن البيروتي بالأبد، كتابةٌ عائمة فوق بيروت، فوق جرح بيروت، وفوق ساكنيها.


* روائي من سورية

المساهمون