استمع إلى الملخص
- في ذكرى رحيله الأولى، استضافت "مكتبة ألف" ندوة لتكريمه، حيث أعلن عن تأسيس "جائزة خالد خليفة للرواية" وصدور رواية جديدة له بعنوان "سمك ميت يتنفس قشور الليمون".
- خليفة كان أيضاً كاتب سيناريو بارع، وبدأ مسيرته برواية "حارس الخديعة"، ويظل إرثه الأدبي رمزاً للأدب السوري والعربي.
يصدف، بعد موت الكاتب، أن يتداول الناس مسار حياته السابقة عبر ما تركه من كتابة، وما تناقلوه شفاهةً من قصص وأخبار، قد يكون أحدُ الأمرَين أكثر جاذبية من الآخر، حتى ليُقال إنّ الشخص ذاته أهمّ من منجزه، والعكس كذلك.
لكن الروائي السوري خالد خليفة (1964 - 2023)، الذي تحلّ ذكرى رحيله الأُولى في الثلاثين من أيلول/سبتمبر الجاري، واحد من الكتّاب الذين تركوا أصدقاء كثراً، باغتهم موتُه في سنّ التاسعة والخمسين، وكأنّهم جميعاً يعرفونه معرفة التوأم لتوأمه، وهُم لم يبالغوا، إذ كان خليفة (ولقبُه الخال) على مستويَي النصّ والعيش حيوياً، يكتب لكلّ واحد سطوراً مثلما يحكي له على مقهى.
هكذا كانت ندوة "حديث الألِف" الثقافية التي تستضيفها "مكتبة ألف" التابعة لمجموعة "فضاءات ميديا"، ندوة استثنائية في افتتاح موسمها الثاني الأربعاء الماضي، والاستثنائية جاءت لاستباقها موعدها المزمع في بداية تشرين الأوّل/أكتوبر، وتصادياً مع الذكرى الأُولى لانطلاق الندوة الشهرية. وفي السياق، لدينا خبران؛ أوّلهما إعلان أصدقاء الروائي الراحل تأسيس جائزة تحمل اسم "جائزة خالد خليفة للرواية"، والثاني صدور رواية جديدة له بعنوان "سمك ميت يتنفس قشور الليمون". كانت الندوة مفتاح موسم جديد تقدّمه الروائية اللبنانية هالة كوثراني، والضيفان أمام جمهور كبير ملأ القاعة كانا الروائية السورية روزا ياسين حسن، والصحافي والكاتب المصري سيّد محمود، وتخلّلت الندوة قراءة الإعلامية رانيا الدريدي مقاطع من روايات خليفة.
رأى أنّ السرد أنثويٌ وينبغي أن يقول ذاته رغم إكراهات الذكورة
على جري عادة "حديث الألف"، التي تُركّز على ما تسمّيه "حكاية الحكاية"، كانت هذه المرّة تسأل كاتبَين وصديقَين للراحل عن حكاية كلّ كتاب، وهو الأمر الذي يُطرح على روائي ليجيب هو عنه، أمّا الأصدقاء والقرّاء فلديهم زوايا نظر أُخرى بوصفهم أصدقاء وقرّاء بات النصّ ملكاً لهم، ويمكنهم حتى أن يكونوا أكثر حرية في قراءة دلالات قد لا يُسعفنا بها الكاتب ذاته.
من زاوية سيّد محمود، فإن "مديح الكراهية" وضعت خالد خليفة على خريطة الرواية في العالم العربي، وهي قبل ذلك تنتمي إلى جيل سوري كان خليفة من أبرز أسمائه، قدّم هذا الجيل مراجعة للحظة مفصلية عن العنف الذي طغى على المشهد السوري وآليات القمع السياسي، خصوصاً منذ نهاية عقد السبعينيات ومطلع الثمانينيات. وكان لصدور الرواية وجهٌ كوميدي لهذا العنف الذي يتصاعد في البنية السلطوية الممسكة بالبلاد وصولاً إلى البنى الاجتماعية، حتى صارت الحلول والتنميطات الإقصائية صبغة عامّة أطاحت المجتمع كلّه.
أخبرنا محمود عمّا عاينه بنفسه، إذ منعت الرقابة السورية إصدار الرواية، حيث على غير ما يجري في بلدان أُخرى، ينبغي هناك الحصول على موافقة مسبقة للنشر، فما كان من خالد خليفة مع رفاقه إلّا أن يتّخذوا قرار إنشاء دار نشر جديدة في بيروت أعطوها اسم "أميسا"، أصدرت الرواية، ومن ثمّ تقدّمت إلى "الجائزة العالمية للرواية العربية" ووصلت في نسخة عام 2008 إلى قائمتها القصيرة.
أشار محمود إلى السرد في هذه الرواية، لا بل الطابع المتوافر بقوّة في مسار الروائي الذي كانت تُعبّر عنه نساء، وإن هذا فيما يراه خيار التزم به الكاتب بوجدانه الشخصي وتقنياته الفنّية، من شخص مسكون برموزه النسائية الحكائية عبر جدّته التي يعلّق صورتها على جدار، إلى إيمانه بأنّ السرد أنثوي ينبغي أن يقول ذاته رغم إكراهات الذكورة.
هذا الجيل الذي انتمى إليه الكاتب الراحل، ومن خلال هذه الرواية المفصلية، "مديح الكراهية"، يراه سيّد محمود إدراكاً مستشرفاً إلى أنّ سورية وصلت مرحلة تصدير الكراهية.
في طريقه الروائي، كما تلاحظ روزا ياسين حسن، ثمّة نموذج من كتابة التاريخ السرّي للبشر، عكس ما تفرضه السلطة والمستبدّ والمنتصر من كتابة تمحو رواية الآخرين. وعليه، فإن روايةً مثل "الموت عمل شاق"، الصادرة عام 2016، بعد إصابة خليفة بجلطة، ذاتُ ثيمة أساسية هي جمال القبح، تراها روزا حسن تمثيلاً لثورة إبداعية مهّدت لها كتابات جيل من الروائيّين قبل اندلاع الثورة السورية عام 2011.
من جيل قدّم مراجعةً للحظة مفصلية من العنف والقمع في سورية
والرواية تسرد قصّة جثّة متفسّخة للأب يتولّى أبناؤه الثلاثة نقلها إلى ريف حلب لتُدفن هناك، فتقف الجثّة أمام حواجز، بل يجري اعتقالها، إلى أن تُدفن في غير المكان الذي أوصى به الأب. الذي تلاحظه روزا حسن أنّ الإخوة حاملي الجثة يتعرّفون إلى بعضهم البعض، خلال هذه الرحلة، حتى لكأنّهم، وهُم الإخوة من رحم واحدة، يرون بعضهم للمرّة الأُولى، وهو الأمر الذي تشير إلى أنّه وقع بالفعل بعد الثورة، إذ تعرّفت هي شخصياً لأوّل مرّة على أماكن ومكوّنات شعبية كانت تجهلها كلياً أو جزئياً. وأضافت هنا أنّ خالد خليفة لم يكن معنياً أبداً بتدوير الزوايا الحادّة، بل كتب البشاعة والوجع السوري، بما يجعل القارئ موقناً أنّ هذه الجثة المتفسّخة ما كان لها أن تُكتب إلّا بهذه اللغة الصادمة.
كأن الروائي الراحل سيدلي بدلوه بعد قليل، ليجيب عن سؤال: ألم يبالغ سوريون في توثيق حدث سياسي أو تحويل الإبداع إلى وثيقة؟
تطرح روزا حسن هذا السؤال وتقول إنّ ما يُكتب الآن سيكون برائحة الدم والبارود، ولكن لو كتب الحدث ذاته بعد عشر سنوات سيختلف الأمر، غير أنّ إغفال حرارة اللحظة الراهنة بانتظار أن يبرد الدم الساخن أمر غير معهود في منعطفات التاريخ البشري، والأساس في كلّ إبداع هو هل تستطيع حمل الحدث السياسي إلى النصّ الأدبي، أو جرّ النص إلى ما تحت سقف الحدث السياسي، مختتمة بالقول إنّ ثمّة نصوصاً كُتبت من داخل اللحظة وعبَرت الزمن وأُخرى لم يعُد لها وجود.
لدينا رواية جديدة ستصدر خلال أيام لخالد خليفة عن "دار "نوفل/هاشيت أنطوان" في بيروت. ودائماً نقع في ذات المخاض من الأسئلة حول نشر أعمال مخطوطة في غياب الموافقة النهائية لكتابها. رواية "سمك ميت يتنفس قشور الليمون" الأخيرة أعادت سيّد محمود إلى مثال قريب وهو رواية "حتى نلتقي في أغسطس" التي نشرها أبناء الروائي الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز مطلع هذا العام، وقد كان ماركيز في أواخر سنينه يعاني فقدان الذاكرة ثم الخرف، مقرّراً قراراً حاسماً بعدم نشرها، بيد أن الورثة نشروها بعد وفاته بعشرة أعوام.
لدى محمود ميل إلى أنّ القارئ يعرف أين قد تكمن مشاكل النص في غياب صاحبه، لكن هذا العمل، حتى لو كان غير مكتمل، فإنّ دوراً كبيراً يقع على المحرّر، هذا الشخص الذي كان خالد خليفة مؤمناً بقوّة حضوره، حتى أنه على الدوام كان يتيح نسخاً لرفاقه ممّن يؤمن بقراءتهم، ليس بعد انتهاء العمل، بل أثناء الكتابة فصلاً فصلاً.
النسخة النهائية، كما ذهب سيّد محمود، بقيت في عهدة الشاعر منذر مصري وهو صديق مقرب من خليفة، كان مستشاراً لهذه الرواية وقريباً جدّاً من مجرياتها ونقاشها، وهي تتحدّث عن مجموعة أصدقاء من مشارب سياسية مختلفة في النصف الثاني من الثمانينيات، وتقع في مدينة اللاذقية التي كان خليفة، إضافة إلى مدينته الروحية الأُولى حلب، يُدرجها ضمن ما يسمّيها "المدن المعاقَبة".
أمّا روزا حسن، فقالت إنّ الرواية من أكثر أعمال خليفة التي أحبتها، وفيها تجربة جديدة في مساره الإبداعي، جعلتها تشمّ الأماكن وتعيش التفاصيل المشغولة من هذا "الحكّاء العالي" الذي يحكي هذه المرّة عن مدينتها وقد كانت ماثلة حية أمامها في منفاها حيث تعيش الآن في ألمانيا منذ 2012.
كيف يمكن تخيّل هذا العالم من دون روايات كافكا التي نُشرت عقب وفاته؟ تتساءل روزا وتضيف أنّ هناك خوفاً من أن نظلم الكاتب حين ننشر في غيابه عملاً لم يكتمل كما يريد هو، ومن جانب آخر هناك خوف أن نخسر نصّاً نحن بوصفنا قرّاء الكاتب نراه حقّاً لنا. هذا جدال -كما تنهي- لا جواب شافياً له.
لم يحضر منذر مصري، لكن حضرت كلمات أرسلها إلى الندوة وقرأتها هالة كوثراني وفيها يقول: "أعرف خالد منذ سنين طويلة، إلّا أنّني في السنوات الأخيرة من حياته كنت ربما الأقرب إليه. كان يخبرني عن مدى وحدته. يقضي النهار يكتب، يرسم، يطبخ. في المساء يأتي الأصدقاء زرافات زرافات، يسهرون معه حتى لا أدري إلى متى. أستيقظ، أجده نائماً على الكنبة الطويلة في الصالون في ثياب سهرة البارحة. نعم خسرتُ بموت خالد الجدار الذي أستند بظهري إليه كلّما ضعفتُ وهممتُ بالسقوط. لست وحدي من كان يعني له خالد هذا".
سرَد سيّد محمود العديد من الحكايات التي عاشها مع صديقه الراحل في غير مدينة، وبالتحديد القاهرة ودمشق، وحكى عن شغف خليفة بالطبخ وأمنيته بإنجاز كتاب مُعاصر عن الطعام، وهو أصيل مدينة حلب المشهورة بتاريخ طعام ثري التنوّع.
خالد خليفة كان روائياً كتب اسمه في مدوّنة السرد العربي بوضوح منذ ثلاثة عقود. ومع هذا، وفي منبع سردي لا يبتعد ولا يقلّ جودة، كان كاتب سيناريو للتلفزيون، قدّم مع المخرجَين هيثم حقي وشوقي الماجري أعمالاً شكّلت علامات فيما يعرف بالأدب التلفزيوني بدءاً من "سيرة آل الجلالي" ووصولاً إلى "هدوء نسبي". أمّا مساره الروائي، فضمّ روايته الأُولى "حارس الخديعة" عام 1993، تلتها "دفاتر القرباط" عام 2000، ثمّ "مديح الكراهية" في 2008، و"لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة" في 2013، و"الموت عمل شاق" في 2016، و"لم يُصلّ عليهم أحد" عام 2019، كما صدر كتابه "نسر على الطاولة المجاورة" عام 2022، وفيه تداعيات سيرية، وأخيراً رواية "سمك ميت يتنفس قشور الليمون".