بعد إعلان الجمهورية في عام 1923، نشأت حركات تحديث مختلفة في تركيا. وجد الناس أنفسهم تحت تأثير الفهم الجديد الذي ساد البلاد في هذه الفترة، في محاولة لتحويل الدولة والمواطنين من شرقيين إلى أوروبيين. ومن دون شك، لم يقبل المثقفون الأتراك، أثناء عملية التحديث، استمرار الموسيقى التركية الكلاسيكية، وقد أدار هؤلاء المثقفون ظهورهم للقيم الشرقية ولم يروا المستقبل إلا من خلال تبنِّي القيم الغربية. غُيِّرت الأبجدية، وحوَّلت ثورةُ الملابس الشعبَ التركي من صورة شرقية كلاسيكية إلى صورة غربية في وقت قصير للغاية. لقد تغيرت الهندسة المعمارية بسرعة، وأصبح الشكل الجديد واضحاً، خصوصاً في تصميم المباني في أنقرة.
في بداية الفترة الجمهورية، كان بعض المثقفين الأتراك ينتقدون الموسيقى التركية الكلاسيكية، بزعم أنها غامضة وصعبة الإدراك، فيتعذر على الأتراك فهمها، ولها مقامات معقدَّة وليست تركية. وبناءً على ذلك، فإن الأصل الحقيقي للموسيقى التركية، وهي عنصر من عناصر الثقافة الشرقية، مثل ما قال السلطان عبد الحميد الثاني (1842 - 1918): "المقامات التي نسمِّيها ألاتوركا لا تنتمي إلى الأتراك، لكنها مأخوذة من الإغريق والفرس والعرب". ومن المحتمل أن يكون هذا الرأي قد ألهم ضياء جوك ألب في كتابه "مبادئ القومية التركية"، حيث كتب: "أصل الموسيقى التركية ليس تركياً، لكنها خليط بين الموسيقى البيزنطية والفارسية والعربية".
كانت الدولة القومية الجديدة، تنشأ من رماد الإمبراطورية متعددة الثقافات، وأرادت الإدارة الجديدة تغيير كلَّ شيء عائد إلى الماضي. وتجدر الإشارة هنا أيضاً إلى أنه منذ أن أصبح الأتراك مجتمعاً إسلاميَّاً، لم يقطع الأتراك أبداً روابطهم الثقافية مع الشرق كما فعلوا في الثلاثينيات والأربعينيات. تركيا، التي كانت تتغير بسرعة، انتقلت من الخلافة إلى حكومة علمانية، واختلفت ملابس الناس تماماً عن الشرق، وفوجئ العالم الإسلامي بإغلاق تكايا الدراويش والزوايا، والأذان رُفِع بالتركية أيضاً، وهي فكرة لم يرتضِها الناس قطّ.
تعرَّضت الموسيقى التركية لانتقادات باعتبارها "موسيقى حزينة تنوّم الناس وتحثُّ على البكاء"، وهذا - برأيهم - كشف عن حالة الموسيقى التركية الكلاسيكية التي لم تتوافق مع التحديث المنشود في الموسيقى. تعرَّضت الموسيقى التركية الكلاسيكية للتحقير في كلِّ مناسبة، فالمقالات وأعمدة الصحف في الثلاثينيات كانت تدعوها "موسيقى الخمارات". خلال فترة هذه المناقشات، حدث تطور سلبي للغاية لا يُنسى بحقِّ الموسيقى التركية الكلاسيكية، ففي نهاية عام 1934، حُظِر بث الموسيقى التركية في الإذاعات التركية رسميَّاً.
كيف حدث هذا؟ كيف يمكن للموسيقى، التي كانت أحد أهم فروع ثقافتنا منذ مئات السنين، أن تُحظر في الراديو، ويُحظر تعليمها في المؤسسات الرسمية، وحتى بعد ذلك، كيف صار عزف تلك الموسيقى في الكازينوهات أمراً مزعجاً للغاية كما هو مكتوب في أعمدة الصحف آنذاك؟
حُظِر بث الموسيقى التركية في الإذاعات رسميَّاً عام 1934
في الواقع، سيكون من الصحيح أن نأخذ بداية عملية حظر بث الموسيقى التركية الكلاسيكية في الراديو إلى فترة أبكر قليلاً حتى نفهم تلك التطورات. ومن ثم، يمكن فهم سلسلة التطورات التي حدثت من أجل حظر الموسيقى في أجهزة الراديو بسهولة أكبر. من أهم الخطوات التي اتُّخِذت ضد الموسيقى التركية الكلاسيكية، وربما كانت نقطة البداية الحقيقية للذين يقولون "هذه الموسيقى ليست للأتراك"، هي الأفكار الحادَّة في عمل ضياء جوك ألب بعنوان "مبادئ القومية التركية" الذي نشرته مديرية أنقرة للمطبوعات عام 1923. يجب ألا ننسى أن ضياء جوك ألب قد أثَّر بعمق في الكوادر المؤسسة للجمهورية الجديدة بأفكاره وأعماله القومية.
يتهم ضياء جوك ألب في كتابه صراحةً الموسيقى التركية الكلاسيكية بعدم الانتماء إلى الأتراك، يقول: "اليوم، نحن أمام ثلاثة أنواع من الموسيقى: الموسيقى الشرقية، الموسيقى الغربية، والموسيقى الشعبية. أي من هذه الأنواع هو الوطني بالنسبة لنا؟ لقد رأينا أن الموسيقى الشرقية مريضة وغير وطنية. بما أن الموسيقى الشعبية هي موسيقى ثقافتنا، والموسيقى الغربية هي موسيقى حضارتنا الجديدة، فكلاهما ليس غريباً عنّا. في هذه الحالة، ستولد موسيقانا الوطنية من مزج الموسيقى الشعبية في بلادنا بالموسيقى الغربية".
في عام 1826، أُنشئت فرقة "موسيقى الهمايون" بإسطنبول في عهد السلطان محمود الثاني (1785 - 1839)، وبعد إلغاء السلطنة في 11 أكتوبر/تشرين الأول 1922، أخذت اسم "موسيقى مقام الخلافة" بين عامي 1922 و1924، وكانت في خدمة الخليفة عبد المجيد أفندي (1868 - 1944). وفوق ذلك، في بداية القرن العشرين، كانت هناك فرقة موسيقية أخرى في إسطنبول باسم "أرطغرل"، وقد جذبت انتباه الجمهور.
دُعيت هذه الفرقة من قبل مجموعة من رجال الأعمال بمناسبة تحرير إزمير من احتلال العدو، وذهبت على متن سفينة، وقدمت حفلاً موسيقياً هناك. كان الغازي مصطفى كمال باشا من بين الحضور أيضاً، وقد اصطحب الباشا هذه الفرقة الناجحة معه عند عودته إلى أنقرة. في أنقرة، أُطلق على فرقة أرطغرل الموسيقية اسم "هيئة موسيقى رئاسة الجمهورية". إلا أن الفرقة بقيادة إحسان مراد (أونات)، التي شاركت في مهام رسمية مختلفة في أنقرة، لم تجد نفس الجمهور المتحمّس والاهتمام التي حظيت به في إسطنبول، وأرادت العودة إليها مرة أخرى.
في نفس الفترة، ذهب بعض أعضاء "موسيقى مقام الخلافة" تحت إشراف عثمان زكي بك (1880-1958) إلى أنقرة وأقاموا حفلات موسيقية مختلفة هناك. وبعد نجاح تلك الحفلات، سُمِح لموسيقى أرطغرل بالعودة إلى إسطنبول مرة أخرى. وهكذا، في عام 1924، أي بعد حوالي عام من نشر كتاب ضياء جوك ألب "مبادئ القومية التركية"، أخذت فرقة "موسيقى مقام الخلافة" اسم "هيئة موسيقى رئاسة الجمهورية". وقد تفرَّقت بسبب عدم الاهتمام بها بعد وصولها إلى أنقرة.
إلى جانب ذلك، تأسست "دار الألحان" في إسطنبول تحت إشراف وزارة المعارف في 10 يناير/كانون الثاني 1917، بقيادة ضياء باشا (1849 - 1929)، الملحن وسفير الدولة العثمانية الأسبق في واشنطن. وعندما احتلَّت دول الحلفاء إسطنبول، لم تعد "دار الألحان" قادرة على العمل بسبب الصعوبات التي واجهتها. أُعيد افتتاح دار الألحان في عام 1923 بأسماء موسيقية مهمة، مثل ليون هانجيان أفندي، وكاشِياريك حسام الدين بك، ورؤوف يكتا بك، وغُيِّرت المناهج الدراسية وأنشئ قسم منفصل للموسيقى الغربية. وقد نجحت هذه المؤسسة، في عامي 1924 و1925، في إصدار مجلة "دار الألحان" حتى في أصعب الأوقات الاقتصادية في البلاد، وصدرت في سبعة أعداد، وتضمنت أيضاً الموسيقى الغربية.
بعد فترة وجيزة من إعلان الجمهورية في 29 أكتوبر 1923، بدأت تحدث تطورات مهمة في الموسيقى، الواحدة تلو الأخرى. غُيِّر اسم "دار الألحان" إلى "مدرسة إسطنبول الموسيقية" بقرارين منفصلين من وزارة المعارف بتاريخ 9 ديسمبر/كانون الأول 1926 و22 يناير 1927، ثم أصبحت "كونسرفتوار بلدية إسطنبول" في عام 1943. بالإضافة إلى ذلك، أُعيد تنظيم هيكل المؤسسة. وهكذا ظهر أهم نقص في تاريخ الجمهورية من زاوية تعليم الموسيقى التركية الكلاسيكية: خلال اللائحة الجديدة، وفي 29 ديسمبر 1926، أي في عهد نائب وزير المعارف مصطفى نجاتي بك، أُغلق قسم الموسيقى الشرقية تماماً، بقرار اتخذته لجنة الفنون الجميلة في وزارة المعارف، وبتوقيع نامق إسماعيل بك مدير قسم الثقافة التركية.
كان أعضاء لجنة الفنون الجميلة في وزارة المعارف، الذين اتخذوا هذا القرار، هم: موسى ثريا، جمال رشيد ري، وإسماعيل حقي بلطجي أوغلو. وهكذا، حُظر رسمياً تعليم الموسيقى التركية الكلاسيكية عبر القنوات الرسمية في المدارس العامة في عام 1926.
وبقرار مصطفى نجاتي بك في 12 يناير 1926، كانت هيئة تصنيف الموسيقى الشعبية برئاسة رؤوف يكتا بك تعمل في معهد إسطنبول الموسيقي في الأيام التي ليست فيها دراسة. وبتسامح والي إسطنبول آنذاك محي الدين أوستونداغ، تمكّنت اللجنة من مواصلة دراساتها للموسيقى الشرقية تحت اسم "لجنة تصنيف آثار الأسلاف"، ولكن بالتأكيد بلا تعليم للطلاب.
ومن بين هذه الهيئة، كانت هناك أسماء معروفة من تلك الفترة مثل رؤوف يكتا بك (1875-1935)، إسماعيل حقي بك (1866-1927)، زكايي زاده أحمد إرسوي (1869-1943). وعُيِّن رفيق فرسان، الذي شغل أيضاً منصب طنبوري واللجنة التنفيذية في معهد كونسرفتوار بلدية إسطنبول، رئيساً للجنة المذكورة في عام 1950، واستمر في هذا المنصب حتى تقاعد عام 1957. قامت لجنة تصنيف آثار الأسلاف بجمع نماذج من الموسيقى التركية بنجاح، رغم الفرص المحدودة وظروف العمل الشاقة. أصدرت هذه اللجنة منذ إنشائها ثلاثة وأربعين دفتر ملاحظات وأكثر من مائتين وخمسين نوتة موسيقية. ومثل ما نجحت لجنة التصنيف في عرض الأعمال المُجمَّعة في الحفلات الموسيقية، نجحت أيضاً في تسجيلها على أسطوانات.
*مؤرخ موسيقي تركي
** ترجمة عن التركية: أحمد زكريا وملاك دينيز أوزدمير