حارس النوم

17 يوليو 2024
مصطفى الحلاج/ فلسطين
+ الخط -
اظهر الملخص
- الكاتب يحرس أطفاله في المخيم ليلاً بينما تحوم طائرات الاستطلاع، التي تقصف الخيام إذا لم تعجبها أحلام النازحين، مما يحولها إلى رماد.
- النازحون يقاومون النوم خوفاً من الأحلام التي قد تجلب الكوارث، ويتابعون أخبار الهدنة عبر الراديو، بينما يواصل الكاتب حراسة نوم الأطفال.
- القصف يتجدد، والكاتب يحمي أطفاله من الأفاعي والفئران، ويعبر عن صرخته للعالم مطالباً بعدم موت الفلسطيني بصمت.

منتصف الليل بتوقيت النزوح، أجلس متقرفصاً في ركن الخيمة أحرس نوم أطفالي، تحوم فوق المخيم طائرات استطلاع مُسيرَة، تراقب أحلام النازحين، تعرضها على قادة الغزاة عبر شاشات عملاقة، فإذا لم يعجبهم حلم، أعطوا الأمر لطائرة مقاتلة أن تلقي على خيمة الحالم طناً من البارود، فتهوي الخيمة حفرةً عشرين متراً في الأرض، ويصير هيكلها الهش ناراً تنهش أجساد من اعتقدوا أنهم آمنين في نزوحهم الجديد، فيهرع الناس راكضين يسبقهم صراخهم ما بين طالب للنجدة ومعطيها؛ بينما أتحسس الخُطى في الظلام الشامت، أنتظر اجتياح الشظايا لكي أدفع بها بكفين مجردتين وكثير من الحرص على أرواح وأجساد الصغار النائمين.

يهدأ القصف، تنجو السماء من بطش الطائرات وتلمع فيها النجوم، تستعيد عافيتها، فيما تفشل محاولة خِيام المستشفى الميداني في علاج الحلم، ويعلن عن اسمه في قائمة شهداء الساعة التاسعة صباحاً. يضرب النازحون كفاً بكفٍ محوقلين مسبحين وساخطين متعوذين من الخذلان ثم يعودون لخيامهم يقاومون النوم، يوصون بعضهم "لا تناموا فرُب نوم جر حلماً ورُب حلم جر كارثة على المخيم"، يهشون على أسراب النوم بالثرثرة ومطاردة أخبار الهدنة على أجهزة راديو يخنقها التشويش فتلهث وتغني وتلهث وتذيع الأخبار فلا يفهم من أخبارها إلا قليلاً. الهدنة بعيدة وكُرة النار تتدحرج تفترس كل ما يعيق طريقها المُنحدر، وتلهث أجهزة الراديو وتتعب بطارياتها وتلهث، وينام النازحون وأعينهم معلقة إلى السماء حيث تجعر فوقهم الطائرات، تفتش عن حلم يحاول أن يتسلل خارج خيمة خائفة تبحث عن ممر آمن لأحلامها.

أواصل أنا حراسة نوم الأطفال، ثمة حركة في زواية الخيمة الخلفية، أطفئ الضوء، أشعله، أطفئه وأشعله، أمسك بيدي سكيناً مستعداً به لأن أنقضّ على لص يبحث عن زيت زيتون، أسطوانة غاز، مقعد، كيس طحين، زجاجة مياه معدنية، قطعة وأوراق نقدية، سلسلة ذهبية، هواتف محمولة وأي شيء يصلح للسرقة والبيع صباحاً في سوق الحرامية (اللصوص) عند طرف المخيم. 

من يشتري ليلنا ويعطينا مساءً مع فنجان قهوة وديوان شعر غزلي وموسيقى قانون هادئة!

أتنحنح يصوت عال لكي أجنبه وأجنب نفسي قتالاً لا أضمن نتائجه. ولا يهمّ ابن الحرام هذا كيف يجتاح الخيمة، مثلاً قد يهتك عرض شادرها المصاب بالهشاشة، فتجده هكذا في وجهك وسط الخيمة بين الأُسرة يشهر في وجهك سلاحه. وقد يتسلل خِلسة فيحدث شرخاً في زواية ما من الخيمة، يتحسس ما حول الشرخ ويسحب بيد آثمة ما يقع تحت يديه. وقد يخرج عليك من حلمك فتنهض مذعوراً تتفقد أعضاءك وأطفالك وتقعد تقارع أرتال الأرق حتى صباح تعطلت آلة الزمن بينما تنقله إليك فتأخر ألف عام ولم يأتِ. 

يعود القصف من جديد وتحرث طائرات مقاتلة ساحة السماء. يصرخ النازحون من جديد "وين نروح يا ألله، وين نروح يا عالم"، وتعوي في الشوارع صافرات الإسعاف ويجتاح ضوؤها الأحمر المتقطع الخيمة فتصير حمراء. أغطي الأجساد الصغيرة الملتفة حولي، أتفقد سقف الخيمة من أسفل إلى أعلى، أتتبع التفاصيل، من أين يمكن لأفعى مارقة أن تسرق لها مدخل. عليّ أن أراقب أي حركة في زوايا الخيمة، فكل اهتزاز مشكوك فيه متهم حتى تفصح الحركة عن نوايا حسنة كتهريب كمية هواء تكفي لأن أسرق نفساً كاملاً من أنياب طقس ليلي يعج بالرطوبة والحرارة الحارقة.

قبل يومين سمعتُ جارنا المقعد في خيمة قريبة يصرخ بعد منتصف الليل، أغاثه النازحون هرولة، يحمل بعضهم السكاكين وبعضهم العصِي الغليظة وبعضهم بمعاول، وجميعهم أيديهم مشرعة مستعدة للقتال. بعد نصف ساعة من المطاردة والمعارك وصراخ النساء والأطفال، وجعجعة الرجال، خرج أحد الرجال يمسك بيده أفعى بطول مترين وجدها مكان نوم زوجته العجوز التي تكورت في زاوية الخيمة جاحظة العينين صامتة مصدومة، وظلت السيدة المسكينة على حالها صامتة لا تفعل شيئاً وترفض الطعام والشراب حتى لفظت أنفاسها الأخيرة صباح اليوم، وقد دفنها النازحون في أرض زراعية  قريبة من سياج المخيم. كتبت ابنتها البكر على ضريحها المؤقت "ماتت قتيلة صمتها"، من يضمن لي أن تكون خلال كتابة هذه السطور ثمة أفعى ترسم خطة ماكرة لتقتحم الخيمة، هل عليّ أن أصرخ وقتها، أو أصرخ الآن على سبيل الاحتياط، فيتجهز الجيران للمعركة. 

هل سمعت صراخي عزيزي القارئ الشقيق؟ إنني أصرخ.. نعم أصرخ، عليّ أن أصرخ ليسمعَ العالم الصامتُ صراخي، لا يجب على الفلسطيني أن يموت بصمت دون أن يسمعه أحد، أو يفقد حقه في الصراخ بينما يساق إلى حتفه. فعندما أموت لا أريد أن يُكتب على ضريحي "قتله الصمت".

"سعيد تنساش تجيب معك سم فئران"...

اللعنة نسيتُ ولم أتذكر إلا الآن بعد كل هذا الليل الذي استقر في الخيمة ويرفض الانسحاب. كيف عليّ الآن أن أوقف فضول الفأر الشقي، الذي يستكشف ممرات له تحت وسائد الصغار المختبئين من أصوات القصف، خلف سواتر نوم رملية سرعان ما تنهار كلما دوى انفجار. يحُكني جلد يدي، أشعل ضوء الجوال الباهت، فأجد جعراناً أسود، كأنه جاء إلى هنا بعد حمام زيت، فلمعتْ تفاصيل القبة التي يحملها على ظهره على نحو مقزز، يغرز مخالب أقدامه الشوكية السوداء في جلدي ويسير بهدوء مطمئناً. كيف لي أن أتعامل مع هذا الكائن الغريب الذي يشبه الشيطان في هذا الوقت المتأخر من الليل؟ كيف يمكنني قتله دون أن أُحدث جَلبة تفشل جهودي الخرافية لحماية نوم الأطفال المتعبين من الحرب وقصص المخيم التي يقصها عليهم الأطفال في النهار؟ 

لماذا يأتي الليل، لماذا يطيل المكوث هنا؟ ولماذا يعبث بنا كل هذا العدم؟ قصف ولصوص، وسماء متآمرة، وظلام شامت وأفاع وفئران وحشرات تشبه الشياطين، ودماء تتجمد في العروق، وأشلاء تطير وتسقط فوق سطوح الخيام، وأحلام تغتالها القذائف، ونار وطائرات زنانة، وموتى يدفنون تحت شتلات الطماطم وصراخ لا يتوقف. من يشتري ليلنا ويعطينا مساءً مع فنجان قهوة وديوان شعر غزلي وموسيقى قانون هادئة! لا أحد لا أحد. وسنظل وحدنا ننادي في صحراء العرب أحد أحد.

* كاتب من غزّة

نصوص
التحديثات الحية
المساهمون