أن نصحو ذات 25 جويلية* (تموز/ يوليو) في تونس، فلا نجد الجمهورية.
إنه كابوس بلا شك. ومن حسن الحظّ أنه من شبه المستحيل أن يتحقّق.
أن نصحو ذات يوم في تونس، فنجد الجمهورية ممسوخة...
هذه صيغة كافكاوية لذات الكابوس.
لكنها قابلة للتحقّق... بل لعلّها متحقّقة بالفعل...
* ذكرى إعلان الجمهورية عام 1957 في تونس
■ ■ ■
ما يُطمئننا على النظام الجمهوري، في تونس، هو عدم وجود أفق لنظام بديل. لقد جرى تصفية المَلكية وأشكالها منذ عقود طويلة، بحسم وحزم وبساطة.
قد يقال أن الجمهورية كانت لعبة ميكيافيلية أوصلت بورقيبة إلى الحكم بصلاحيات واسعة.
لا ينفي ذلك أنها الخيار الأفضل، هل يتحرّك التاريخ دون هذه الحيل؟
لعله تأويل افترائيٌّ للتاريخ ضد بورقيبة. فلتونس نخبة متنوّرة لا شكّ وأنها طمحت إلى النموذج الجمهوري. للأسف لن نجد من يضع ذلك في سردية شاملة، ولكنه افتراض له مستندات صلبة.
ويمكن أيضاً ألا نطرح السؤال من أساسه: كيف وصلنا إلى الجمهورية؟
ما ينبغي أن يُطرح على مؤسّس الجمهورية هو ما فعله بها...
طوال ليالي الحكم الطويلة...
■ ■ ■
الجمهورية، إذ عدنا للقاموس، أو حتى للحس السليم وحده، هي نظام تكون فيه السلطة للشعب، للجمهور، للإرادة العامة. فهل كانت ذات يوم؟
يقول لنا الأصل اللاتيني Res Publica أن الجمهورية هي "الشيء العام"، الشأن العام بعبارة أكثر تداولاً.
بصياغة جان جاك روسو: "أن يحكم الشعب نفسه بنفسه". إنها المثال السياسي الأعلى الذي ينبغي للمجتمعات أن تبلغه.
معظم دول الأرض تديرها أنظمة جمهورية، هل بهذه البساطة تتحقّق الجمهوريات؟
نعم
لكن باسم الجمهورية تقترف كل التحيّلات على الشعوب
يحكم الشعب نفسه بنفسه من خلال ممثّلين له
ماذا نقول حين يُنكر الشعب ممثّليه، فلا يتعرّف على نفسه فيهم؟
هل يتعلّق الأمر - رغم ذلك ـ بـ"جمهورية"؟
لعلّها أشباه جمهوريات نقضي حياتنا فيها
بعضها جمهوريات موز، كما يقول ذلك التعبير الكاريكاتيري
بعضها، وربما معظمها، جمهوريات منقوصة.
لكن هل يوجد عقل جماعيّ يفكّر في تجاوز نقصها؟
■ ■ ■
يمكن أن نقول: الجمهورية هي حكم الشعب.. والبقية تفاصيل
لكن ماذ لو كانت التفاصيل هي التي تعيق تحقّق الجمهورية؟
هناك فرضية يقوم عليها كل نظام جمهوري، وهي أن كل مواطن مشارك في الحكم.
هل يشعر المواطنون، كل المواطنين، بذلك؟
ألا يقف الممثلون أنفسهم حاجزاً دون ذلك؟
بل كل النخب... في كل مكان
هل توجد ندية بين المواطنين والقائمين على أجهزة الحكم؟
ليس الطبقة السياسية فحسب، بل حتى الطبقة البيروقراطية؟
بهذا المعنى، فإن المخوّل الوحيد كي يمنح صفة الجمهورية هو المواطن متى شعُر بأنه طرف في الحكم.
جرى تصعيد هذا المعنى ضمن خطاب قيس سعيّد في حملته الانتخابية في 2019
لعلّها كانت ورقة انتخابية ناجعة، لكن مقترحات تنفيذ هذه الفكرة ظلّت معلّقة، ثمّ تاهت الفكرة وذوت في مناورات الحياة اليومية للسياسيين
لا يخفى أن هناك صعوبة تاريخية في تجسيد مُثُل الجمهورية...
من الجيّد أن المفهوم بات مبذولاً للتداول، لكن أي معنى لفكرة رائجة ولا تثقب الجدران؟
■ ■ ■
في فرنسا، كانت الجمهورية نتاج تاريخ معقّد
كان لا بدّ من خيبات وانكسارات. جمهوريتان قصيرتا النفس من أجل نظام جمهوري راسخ يحكم منذ 1870
الفرنسيون باتوا يعتقدون أن الجمهورية فكرتُهم على الرغم من تاريخها البعيد، وجذورها الرومانية - الإيطالية المعروفة
يختم الرؤساء خطاباتهم بالقول: تحيا الجمهورية
إنها صانعة الهوية الفرنسية الجديدة، تماماً كما فعلت ذلك الملكية لقرون والإمبراطورية لعقود
تتلاحق الجمهوريات في فرنسا وترقيماتها (على عادة الملوك) وتتنافس في مراكمة الإنجازات لصالح البلاد
لكن ما سرّ عام 1870 الذي وطّد أقدام الجمهورية، ونقلها من حزب إلى إطار عام تتحرّك ضمنه كل الصراعات السياسية؟
لقد جاءت الجمهورية الفرنسية (الثالثة) بعد هزيمة عسكرية قاسية ضد ألمانيا. كان الخوف من انهيار "الحضارة الفرنسية" وراء الركون إلى هذه اليوتوبيا السياسية. لم يعد من الممكن الاطمئنان للرعاية الأبوية لإمبراطور أو ملك. لا بد من تسخير كل مقدّرات الشعب لإدارة الوطن.
حين وصل الجمهوريون لم يتورّعوا في قلع التطلّعات الملكية والإمبراطورية والفوضوية بعنف.
وحين استتبّ الأمر للجمهورية قرّرت أن تغزو المستقبل، وها قد نجحت في ذلك. فعلى مسافة قرن ونصف من الحكم الجمهوري في فرنسا لا بديل يبدو في الأفق إلا التنويعات الجمهورية
هذا الموقع حصّلته الجمهورية في زمن حكم الرئيس جول فيري الذي استثمر جهاز الدولة في اتجاهين: المدرسة (ضمان المستقبل) والاستعمار (ضمان تصريف معضلات المجتمع الفرنسي)
وإذا قلنا الاستعمار، فقد التقينا مجدّداً بتاريخنا، نحن في تونس أو في الجزائر والمغرب...
■ ■ ■
لم تصلنا الجمهورية عبر تاريخ طويل
وصلت منجّمة في عقول ذهبت للدراسة في فرنسا أو تأثّرت بأفكار فلاسفتها
ثم نبتت فجأة بعد الاستقلال
الجمهورية - في تاريخنا - أقرب إلى كونها حقنة
وقد تبيّن أن هذه الفكرة / الحقنة لا تحتاج إلى أرضية ملائمة كي تعيش..
تستطيع أن تعمل بغض النظر عن مراعاتها للمثال الجمهوري
يبدو أن الجميع قد اطمأن لذلك.
ربما بسبب هذه الطمأنينة قلما نفكّر في الجمهورية
■ ■ ■
صدر منذ سنوات بالفرنسية "القاموس النقدي للجمهورية"، وفيه يقف المشاركون على إشكاليات سنتعرّف عليها بسهولة في واقعنا العربي. حيث أن الفكرة المثالية لا تعصم من الانحرافات، لكن ما ينقذ النظام الجمهوري في كل مرة هو أنه يتغذّى من قائمة مُثل يعلنها: تداول السلطة، المواطنة، احترام المؤسسات واستمرارها، العدالة، ضمان الحريات...
ليست الجمهورية مجرّد نظام من المؤسسات، إنها قبل ذلك نظام رمزيّ، ويؤكّد "القاموس النقدي" أن سمة الجمهورية اشتغالها على الأسطورة الجماعية، وهو ما يتجلّى في المعمار والأناشيد والأوسمة والأعياد المدنية والجنازات الرسمية.
كما تتميّز الجمهورية بالمشاريع الكبرى... مشاريع بحجم شعب.. والشعب لا يختزل إلا في جمهورية.
وما لم تملك أمّة آليات تشغيل النظام الرمزي فلا معنى للجمهورية فيها..
■ ■ ■
هكذا
فالجمهورية ليست مهدّدة كنظام. إنها مهدّدة كفكرة محرّكة للهمم
ما يهدّد الجمهورية هو فقدانها للمعنى
وحين تكون فاقدة للمعنى لا يعني ذلك أنها لن تشتغل كسلطة
أشياء كثيرة فاقدة للمعنى وللشرعية تتحرّك في حياتنا...
بعضها ضروري، ولا بدّ من إعادة شحنه بالمعنى والأحلام والقيم.