الكتابة عن محمد الأسعد قبل الصحو من صدمة رحيله أقرب إلى محاولة حشر عالَم في مقالة، وحين تحمل بعضه يعني أنك جزء من المطلوب حشره في حيّز محدود من البياض. ولأنّ الكتابة فضاء يستعصي على الحشر تجد نفسك مضطرّاً لتأمّلٍ طويل كي لا تعلق بشجرة وتضيع الغابة. المقالة المرفقة طرق بطيء على عوالم اللجوء كما عبّر عنه في رواياته.
حرِص الروائي والشاعر والناقد الفلسطيني الذي رحل أول أمس على ضبط إيقاع وتيرة التفاعل بين "الجمال" و"المعرفة" في رواية تحولات وعي اللاجئ والظروف المحيطة به، ليقدم من خلال ثلاثيته "أطفال الندى" و"نص اللاجئ" و"أم الزينات تحت ظلال الخروب"؛ رؤى ونبوءات مصاغة بلغة شاعرية تبقيها على تخوم الأساطير.
يجمع الأسعد في أولى روايات الثلاثية قطرات "ندى ذاكرة" بعثرها الموت والزمن، وينحت مساراته نحو "ذاكرة ندى" احتفظت ببعض خصوبتها في الرواية التالية لتنمو الحكايات نبتاً برياً على سفوح جبل الكرمل، تقاوم جفافها في البصرة والكويت، لتزهر في الثالثة وعياً يستعصي على التعليب في العواصم الأوروبية، ويكرّس فضيلة البقاء خارج دوائر التدجين والثقوب السوداء التي ابتلعت هوامش وتفاصيل صورة الفلسطيني وبرمجت تشوّهات وعيه.
يجمع الأسعد قطرات "ندى ذاكرة" التي بعثرها الموت والزمن
تربط "أطفال الندى"ـ خلال جمعها تفاصيل ما عرف فيما بعد بالنكبة ـ بين تفكير الفلسطينيين بالرحيل عن بلادهم ومقدمات أوصلتهم الى قناعة بأنهم ضحايا لتآمر دولي، حيث يلتقي تاريخ من الغزوات مع وعي مرّنه الزمن العثماني على إيجاد لذته في تفسير الأحداث بسلسلة من الخيانات تكفي لفهم نشأة الكون، وكرّسه الاحتلال البريطاني الذي يقول أحد بقاياه لثائر وجد نفسه وحيداً بعد مواجهات دامية مع المنظمات الصهيونية "هذه قضية أكبر منك، قضية دول، لقد اتفقوا على كل شيء، ولم يبق أمامك إلا أن ترحل" ليبقي اللاجئ الفلسطيني منذ هجرته "مضبوعاً" في رحلة ممتدة تقوده إلى حتفه.
في "نص اللاجئ" الذي فوجئ الشاعر العراقي سعدي يوسف بشجاعته المريرة يستحضر الأسعد المنسي من حكاية ما يصفه بـ "قبيلة فلسطينية مفقودة تم سبيها وإرسالها بعيداً عن الكرمل ومرج بن عامر" ويستعيد الممتنَع عن كتابته من روايات شفهية صاحبت اللاجئين الفلسطينيين الذين حملتهم الشاحنات من شمال بلادهم إلى جنوب العراق ليحقق فرادة تتشعب خلال السرد.
قريباً من نقد وعي ذلك الزمن يلتقط الأسعد ولادة كلمة "اللاجئ" في "جنين" و"طولكرم" و"عانين" لتعبر عن ازدراء واستهانة بالقادمين من الساحل الفلسطيني إلى فلسطين الشرقية يُخرجان القروي المشرد من صفته الفلسطينية، ثم يقرن الراوي الفعل الذي شاركت فيه فدوى طوقان وهي تكتب قصيدتها المتعاطفة مع "اللاجئة" بوصف "الكويتيين" الذي أطلقه فلسطينيو الأردن على الفلسطينيين المشرّدين من الكويت بعد احتلالها لإبقائهم خارج السور وإحاطتهم بما يكفي من الكراهية والنبذ.
اللاجئ كائن غير مرئي في فضاءات الاستشراق الفارغة
الفرز الطبقي لم يغب عن الرؤية النقدية للراوي، ففي استطراد سرده لمظاهر حالة التشظي التي أخذت طوراً آخر عند تجميع اللاجئين في بغداد، يشير إلى شعور شيوخ العائلات البدوية وباشوات العصر العثماني اللاجئين بمهانة لوجودهم مع فلاحيهم، مما دفعهم للمطالبة بنقلهم إلى أماكن أخرى تليق بهم.
تصرّف شيوخ العائلات البدوية وباشوات العصر العثماني في زمن اللجوء امتداد لممارسات أكثر دهاء في زمن الثورة، حيث كان أولاد العائلات يتوجهون إلى مطار اللد للدراسة في هارفارد وكامبردج في الوقت الذي ينشغل الفلاح بحشو بندقيته ليدافع عن وجوده الضئيل.
تأخذ الرواية منحى تشريحياً حين يتعلق الأمر بسيكولوجيا اللاجئ الفلسطيني في العراق وهو يحاول إخفاء هويته وراء اللهجة العراقية أو محاولته الاندماج بالمجتمع العراقي أو الانتماء للكل العربي طلباً لقبوله في عالم غريب، لكن هذه المحاولات تبقى عقيمة على الأغلب حيث انشغل العراقيون عن "اللاجئ" مع انهيار الملكية، واستحضرته الشائعات في وقت لاحق باعتباره متورطاً في محاولة اغتيال عبد الكريم قاسم، لا سيما أن الفلسطيني تحول في الوعي الشعبي العراقي إلى مشروع منفذ لمثل هذا الفعل بعد قيام فلسطيني باغتيال الملك عبد الله الأول في القدس.
منذ البداية كان اللاجئ عنصراً في معادلة سياسية معقدة يفككها الراوي بالإشارة إلى تحذيرات أميركية من تحول اللاجئين إلى بؤرة خصبة للشيوعية، وتقمص نوري السعيد لهذه التحذيرات وعروض بعض أطراف النظام الرسمي العربي التي حولتهم إلى مادة مساومات سياسية، حيث اقترح الرئيس السوري الأسبق حسني الزعيم توطين 350 ألف فلسطيني في إطار صفقة مع بن غوريون والشبهات التي أحاطت بطريقة ترحيل الفلسطينيين إلى العراق وإبقائهم خارج دائرة ولاية "الأونروا"، ولا يخرج عن هذا السياق اتفاق أوسلو الذي أدار ظهره لعقود من الثورة واعترف بالجليل والمثلث والنقب أرضاً إسرائيلية.
يتحول الفلسطيني إلى سؤال فلسفي خلال الحوار مع الآخر "الغربي" و"الإسرائيلي" في رواية "أم الزينات تحت ظلال الخروب" التي تستعيد مناخات ترجمة "أطفال الندى" إلى عدة لغات بينها العبرية، ولقاءات مع الإسرائيلي يوسف الغازي سبقت كتابة السيرة الذاتية المشتركة "أبعد من الجدران" التي صدرت بالفرنسية في باريس.
اللاجئ كائن غير مرئي في فضاءات الاستشراق الفارغة التي اتسعت لها آفاق الرواية والحوار، لا يمكن إخفاءه لكن وجوده يحتاج إلى تفسير، فهو الملامح التي لا تكتمل دون التقاء الماضي والحاضر والمستقبل في أوركسترا واحدة، وهو الحكاية التي لم تجد راويها بعد، يراكم الأثر على الأثر إلا أنه يستعصي على التحول إلى كائن "أركيولوجي" انقرض مع حضارات بائدة.
تحتفظ عالمة الآثار البريطانية دوروثي غارود بحضورها في الرواية مع تحولها إلى جزء من الحكاية الفلسطينية بمعايشتها للفلسطينيات وإخراجها الهيكل العظمي لأنثى إنسان النياندرتال من مغارة الطابون في جبل الكرمل خلال الأعوام الأولى من ثلاثينيات القرن الماضي.
يتيح الخيال للأسعد القدرة على تشكيل شخصية الفلاحة الفلسطينية يُسرى التي عملت مع دوروثي في التنقيب عن الآثار، وظهرت في إحدى صورها النادرة لتصبح بعد الفشل النسبي في محاولات البحث والاستقصاء عنها عالماً من الأيقونات ومرآة عائمة على سطح السرد تتقن التقاط الوجع الفلسطيني بحسّ أنثوي.
حضور دوروثي ويسرا في الرواية يحيل الراوي إلى باحثة أخرى تدعى كاثلين كينون اكتشفت بعد أربعين عاماً أن الحجر الفلسطيني لا يخفي وراءه إلا الحجر الفلسطيني، وكلما تزايد عمق الحفريات تزايد ظهور الفلسطيني يرافقه ذلك الصوت الصامت الذي تطلقه التوابيت الكنعانية وصولاً إلى الغلاف الصخري وربما لبّ الأرض حيث يغلي كل شيء ويكاد يندلع الجحيم.
في موازاة تحولات اللاجئ الفلسطيني تحافظ سياقات السرد على المنحى اليهودي في عذابات الشرق لتكتمل صورة المأساة وصراع البقاء الذي تتيح ديمومته وتحدد بوصلته إرادة المقاومة.
قبل أن يصير لاجئاً، يميز الفلاح في رواية "أطفال الندى" بين يهودي وآخر، حيث تشير الأم بريبة الى يهود "القبانيات" الذين لا تعرف من أين جاءوا ويهود "بلادنا" الذين يريدون بقاء الفلسطيني ولا يحبون الغرباء، يتعرض يهود العراق في "نص اللاجئ" لعمليات نهب وقتل كان يطلق عليها "الفرهود" حيث تقتحم محلاتهم من قبل الغوغاء وتسلب بناء على شائعة ما تسري هنا أو هناك، ويموت المقام العراقي بعد مغادرة اليهود للبلاد.
يتبين في ما بعد أن الفرهود الشهير الذي وقع في عام 1941 لم يكن فعلاً غوغائياً صرفاً وفق ما يرويه الأسعد في "أم الزينات تحت ظلال الخروب" على لسان اليهودي العراقي نعيم جلعادي الذي اكتشف أن البريطانيين افتعلوا ذلك الحدث بالتعاون مع الحكومة العراقية آنذاك وأطلقوا النيران للتضييق على يهود العراق ودفعهم نحو الهجرة.
إلى جانب حكاية جلعادي المشدود لثقافته العربية وشعور بالخديعة لازمه خلال هجرته الى فلسطين ولم يفارقه مع استقراره في نيويورك، تظهر حكايات أخرى بينها حكاية اليهودي اليمني يوسف شريل الذي يقرّر من مكان إقامته في جنوبي القدس الغوص في الزوايا المعتمة لحياة اليمنيين المقتلعين من أرضهم ليحلوا محل مقتلعين آخرين.
يجمع اللاجئ الفلسطيني واليهودي الشرقي في ثلاثية الأسعد شعور التعرض للخديعة الذي ينتاب ضحايا الحروب والعنف في منطقة ملتهبة تحمل بصمات الإرادات الدولية المتعاقبة، حيث يظهر الحكم التركي في صورة المنخور بالخيانات وحجب الوعي عن الشعوب الخاضعة له، والبريطاني مخططاً للمستقبل وفق متطلبات المصالح الاستعمارية، والأميركي حامياً لدكتاتوريات تقع في دوائر نفوذه.
وفي هذا السياق، يلتقط الراوي عولمة نمط من ردود الفعل الإنساني على الذل وامتهان الكرامة، حيث يحول ذئب الاضطهاد الضحايا إلى ذئاب ليمسي الشرطي الفلسطيني الذي سحقه الذل في مخيمات اللجوء جلاداً في شوارع غزة ورام الله، ويمارس القادمون من معازل أوروبا على الفلسطينيين ذات الممارسات التي تعرضوا إليها، ويتحول الشيوعي العراقي إلى رمز للخوف في زمن عبد الكريم قاسم.
تتسع دوائر الماء في البحيرة التي ألقى الأسعد حجارته فيها إلى ما وراء التفاصيل التي غيّبتها شعارات وكتابات زائدة عن الحاجة، لتفيض بشكوك تحرض على قراءة وفهم مختلفين لتاريخ مختلف عليه وواقع ضبابي لم يعد مفهوماً لمعايشيه، ومستقبل تترك أسئلته الغزيرة القارئ أمام استحقاق البحث في مسلمات فقدت شروطها وبقيت عاجزة عن مقاومة تحولات الزمن.
* كاتب أردني