محمّد الأسعد.. أثرٌ في هذه الصفحات

23 سبتمبر 2021
محمد الأسعد (1944 ــ 2021)
+ الخط -

خلال سنوات من الكتابة في هذه الصفحات، صفحات الثقافة في "العربي الجديد"، التي كان واحداً من أبرز كُتّابها (كتبَ هنا، بشكل مستمرّ، منذ انطلاق "العربي الجديد" حتى أيام قليلة قبل رحيله)، ترك محمّد الأسعد ما يمكن تسميته بالأثر. أثرٌ ــ كما يتحدّث الواحد منّا عن كِتاب أو لوحة أو منحوتة. عادةً ما يُتَجَنَّب وصف الاشتغال الصحافي بهذه الكلمة. مَن سمِع منّا بطبع أو إعادة طبع "أعمالٍ صحافية" لكاتب ما؟ هذا التشتُّت اليومي، الذي تقتضيه الصحافة، وهذه المساحة الموجَزة لموادّ كتابية موجَزة، لا يمكن أن يصنعا عملاً يستحقّ أن نُطلق عليه هذه التسمية ـــ قد يُقال لنا. العمل كُلٌّ متناسق، قطعة واحدة أو مجموعة من القطع، تتصادى بين بعضها وتتكامل ـــ قد يُقال أيضاً.

لكنّ ما تركه محمّد الأسعد من مقالاتٍ ونصوص ومواقف نُشرت هنا لم يحِدْ عن هذه القاعدة. أثرُه خريطةٌ. هكذا يمكن وصفه ورؤيته. خريطةٌ لرغبته الكِتابية، تتألّف من عشرات التضاريس والمواقع التي تُحيل إلى بعضها ضمن مسار واحد، ضمن مشهد واحد هو عالَم اهتماماته وأغراضه الكِتابية.

على هذه الخريطة تتنقّل إبرة الأسعد. تُشير تارةً إلى تسمية الاستعمار الثقافي وتارة إلى وصف الاستشراق الجديد؛ تارةً إلى مآسي عِلم الآثار عربياً وتارةً إلى قصيدة الهايكو، تُشير إلى فلسطين مرّة وإلى بلد عربيّ آخر أو إلى الثقافة العربية مرّة أخرى؛ وحيناً إلى هذا الفكرة النقدية التي لا بدّ من قولها في حقّ توجّهات ثقافية معيّنة، وحيناً إلى هذا الكِتاب أو المعرض الذي يستحقّ أن يُضاء عليه، أو إلى هذه النصوص التي تستحقّ أن تُتَرجَم.

أثرُه في هذه الصفحات الثقافية يشبه خريطةً لرغبته في الكتابة

إنْ كان لهذه الخريطة أن تشهد على شيء، فعلى سِعة اهتمامات الأسعد وانتظامها، في الوقت نفسه، داخل مشروع واحد (وهو، بالمناسبة، المشروع ذاتُه الذي ترسمه خريطة كتبه ـــ الواسعة أيضاً بدورها). فالمقالات التي كتبها عن فلسطين، خلال الاعتداء الأخير على أهل غزّة وبيوتها، لا تنفصل، في مرماها ومنطقِها، عمّا كتبه في نقد مظاهر ثقافية عربية، وفي نقد الاستعمار الخِطابيّ والمادّي. 

هذا، مثلاً، ما تأتي به مقالته "ثقافةٌ هي العمق الذي يُقاوم" (عدد 14 أيار/ مايو 2021)، التي يقرأ فيها واقع فلسطين، والواقع العربي، بوصفهما نصّاً، نصّاً أدبياً وفنياً وسياسياً واجتماعياً يُنادي بتحريره من لغةٍ لطالما أُريد له أن يُكتَب بها: استعمار العقول. كما أنّ الشعر العربي المعاصر، بأحواله وأسئلته، حاضرٌ كظلّ في كتاباته عن قصيدة الهايكو، التي لطالما أبدى إعجاباً بها وبالثقافة التي جاءت منها (انظر، مثلاً، "موجةٌ اسمها الهايكو"، عدد 21 حزيران/ يونيو 2021).

لهذه الخريطة، أيضاً، أن تشهد على الرغبة الكِتابية المتدفّقة التي كانت لمحمّد الأسعد، حتى وهو في السابعة والسبعين من العمر. رغبة بدتْ وكأنّها لا تنضب، نابعةً من حواسّ تُراقب ومخيّلة تعمل وعقل يفكّر.

المساهمون