ثلاثة أجسادٍ مجهولة الهوية

22 يوليو 2024
مقطع من عمل للفنانة الفلسطينية رنا البطراوي
+ الخط -
اظهر الملخص
- في 19 يناير، توجهتُ إلى خيمة الشهداء مجهولي الهوية بحثاً عن أخي محمد المفقود منذ 7 يناير بعد اقتحام الجيش للمخيم.
- شاهدتُ رجلاً خمسينياً يبحث عن ابنه بين الجثث، وحاولتُ مساعدته في الكشف عنها، لكن لم يكن أي منها لمحمد أو لابنه.
- بعد محاولات عديدة للكشف عن الجثث، لم أجد محمد. خرجتُ منهكاً وعدتُ إلى والدي بقلق ويأس، متمنياً عودة محمد يوماً ما.

سألتُ الممرض الذي يقف عند كتف الباب يدخن سيجارته بصوت منخفض وممزوج بالتعب: أين خيمة الشهداء مجهولي الهوية؟

أشار إلي بيده -التي يحمل بها السيجارة- في اتجاه معين، من دون أن ينطق بكلمة... تراجعتُ وبدأت أمشي بخطواتٍ قصيرة ومتعثرة، كدتُ أسقط فيها مرات عديدة، باتجاه تلك الخيمة الملطخة بالسواد، خُيّل إليّ أنني شممتُ رائحة الموت تفوح منها، أذكر ذلك اليوم جيداً، نهار الجمعة 19 كانون الثاني/ يناير... سُئِلتُ هناك بشكل آلي عمّن أبحث... أجبت: "أخي محمد، مفقود منذ 7 كانون الثاني، حين دخل الجيش المخيم، واقتحموا بيتنا وأطلقوا عليه النار". كنتُ سأكمل حكاية محمدٍ لو أنّ الرجل الذي سألني ولا أذكر ملامحه الآن أبدى قليلاً من الانتباه إلى ما أقول... شعرتُ بالكلمات تتراجع إلى حلقي، كانت كلمات حارة، أخبرني أنّ "هناك أربع جثث مجهولة الهوية، وصلت إلينا اليوم من مخيم المغازي، تعرفتْ عائلة على واحدة من الجثث ودفنتها، وبقيت ثلاث هناك في استطاعتك الكشف والبحث عن أخيك بينها".

كانت الكلمات فجّة، كيف سيكون أخي محمد واحداً من تلك الأجساد الميتة، كيف تُسرق الحياة من جسد أخي هكذا فجأة، كيف يغادرنا من دون وداع، أو عناق أو حتى كلمة أخيرة. حدّقتُ في تلك الأكياس البيضاء، في زاوية الخيمة، نظرتُ إليها بتردّدٍ لم أشعر أن محمد، أخي محمد الذي ظلّ يركض بإصرار في شوارع المخيم ويعود إلى البيت مرّة بعد مرة، هو نفسه أحد تلك الأجساد التي بدأت تتضاءل، وتشكل عبئاً على حارسها، لم أكن أتخيل يوماً، أن أقف هنا، بينما الخوف يأكلني، ويهزني، من أن يكون وجهه، واحداً من تلك الوجوه الثلاثة التي سحبت منها الحياة... شعرتُ بضرب على كتفي، وإذا برجلٍ خمسيني، يلبس دشداشة بيضاء مائلة إلى الصفرة، متسخة قليلاً، يسارع بالدخول إلى هذه الخيمة، باندفاعة من ينشد الخلاص ويرجو معرفة مكان ابنه، راقبتُ حركته من بعيد، أتذكر تلك المشاهد جيداً، يطوي دشداشته بين قدميه، ينزل ببطءٍ درامي، يتحسّس بيدٍ ترتجف تلك الأجساد الذابلة، يضع يديه على أول جسد، عرف أنّه يلمس القدمين، تحرك خطواتٍ سريعة عند الرأس، وبدأ بفك الرباط الذي يخفي معلومة تُغيّر حياته، وحياتي إلى الأبد، أزاح تلك القماشة عن الوجه، سقط على الأرض مُلتاعاً، كان يبدو عليه الخوف ظل يسحب أنفاسه بصعوبة، وكان المشهد أمامي مباشرة، عاد واقترب من الجسد النائم، لم يبكِ لم يكن ولده، ولم يغلق القماشة على الوجه مرة ثانية... ظلّ يحدق، ويحدق، ظنتته يعرفه، تجرأتُ حينها وتقدمتُ خطوتين مذعورتين فقط، وصار الوجه على مرأى من عينيّ، أنظر إليه مباشرة ولم يكن محمداً، ولا ابن الرجل. 

بدأ يتمتم، يهمس بكلماتٍ لم أسمعها جيداً، أغلق الضوء على الجسد المسكين النائم الذي لم يعرفه أحد، مرتجفاً، راح يبحث في الجسد الآخر، عن علامةٍ ما تخبره أنّ هذا الولد هو ابنه، ولا أتذكّر ما كان اسمه ولم أسمع الرجل يناديه، تساءلتُ حينها، إذا كان سيعيد المشهد الدرامي نفسه، لجلوسه بجانب الرأس، وفك الأربطة المغلقة بإحكام، وإن كان هذه المرة سيجد ابنه، أو أجد أنا أخي محمد!

تعرفتْ عائلة على واحدة من الجثث ودفنتها، وبقيت ثلاث هناك في استطاعتك الكشف والبحث عن أخيك بينها

بسرعةٍ أكبر هذه المرة، فعل ما فعله في المرّة الأولى، وبدأ يكشف عن وجه الجسد الآخر واقتربتُ خطوتين أكثر، طلقة في العنق، وفم منفرجٌ بطريقة محزنة، وجه هادئ خالٍ من أي تعبير، صف أبيض من الأسنان المرتبة، وذقن كثيفة بعض الشيء، وعينان بدأ الموت يأكلهما، وينسيهما كل الصور والمشاهد التي جمعتها خلال حياته يأكل من ذاكرته كل الوجوه المألوفة والتي يحبها، يداه كاملتان، قدماه كاملتان، في استطاعة عائلته أن تحتضنه، وتودعه وتقبله، وتعرف أين ينام ولدها في مكانه الأخير، جسد طازج وشهي للموت، ولا عائلة تبحث عنه، لم يكن ذلك الجسد لمحمد، وليس ابن الرجل الخمسيني الذي أصابه الإرهاق وبدأ يرجف بكلّه أمامي وأمام الرجل الواقف على باب الخيمة، يرقبنا بلامبالاة؟ ربما... باعتبارهذا المشهد حدثاً اعتاد عليه ويحدث منذ أيامٍ كثيرة.

أمسكتُ بالرجل يهتزّ، جلده جاف ويبدو أنه يريد أن يصرخ صرخات عالية مكبوتة، كان ممزقاً ويائساً وغاضباً، ولم يكن من السهل تصريف كل هذا الثقل من قلبه بدا لي أنّ الرجل يحترق، منذ مدّة طويلة ومن دون لهب... نظرتُ في عينيه طويلاً، لم أتكلم لم يخرج الصوت مني، كان مكتوماً ومسحوقاً داخلي، وظلّ هناك جسدٌ ممتد ينام في آخر الخيمة بجانب رفاقه، ينتظر دوره في الكشف عن وجهه، يبحث عن شمسٍ تمنحه الحياة مجدداً، في أن تلمسه نسمة هواء وإن كانت حارة أو تلمسه يدُ العائلة، يد أب تبحث عنه، دموع عين تروي عطشه، أو رائحة يعرفها جيداً.

تطوعتُ للكشف عن الجسد الثالث، تدور عيناي في المكان، ويدور رأسي وأنا أفتش في داخلي عن معنىً لكلّ ما أفعله، قرفصتُ عند رأس الجسد الممتد أمامي، المستسلم حتى آخر حدود الاستسلام، دعوتُ الله، سألته ألّا تطول هذه الثواني البطيئة، تحسستُ مرتبكاً قماشة الجسد الأخير، شعرتُ أنّي أدفعُ شيئاً ثقيلاً لم أستطع رفعه وحدي، دقات قلبي تتسارع تكاد تكسر القفص الصدري، يظهر الوجه شيئاً فشيئاً، وأغمضُ عينيّ، من العتمة... من العتمة البعيدة يطلّ وجه محمد، يبتسم لي، يلوّح بيده كما آخر مرة شاهدته فيها... يطلّ ثم يختفي؛ محمد ذو الـ35 عاماً، شاب متوسط الطول، ونحيل الجسد، له عينان خضراوان مثل عشب، وجبين منبسط، وشعره بلون القمح، هادئ وخجول بعض الشيء، يلعب كرة القدم مذ كان في العاشرة ربما، أو قبل ذلك بقليل، يسدد بقدمه اليسرى، تسديداته غالباً ما تتحوّل إلى أهداف. كان يقرأ الشعر في مرحلةٍ ما من حياته ولا أعرف لماذا توقّف.

رفض محمد الخروج من البيت، حتى بعد أن قصفوا المنزل الذي وراءنا، والمنزل الذي أمامنا

رفض محمد الخروج من البيت، حتى بعد أن قصفوا المنزل الذي وراءنا، والمنزل الذي أمامنا، ومع اشتداد استهداف الجيش المتواصل للمنطقة حُشر محمد والبيت بين قصفين في الوقت نفسه، لم يغادر... ظلّ هناك يمارس عاداته اليومية، يشعل ناره ويغلي فنجان القهوة... يجلس عند عتبة البيت يدخّن سيجارته وفي داخله عدم فهمٍ عميق لما جرى.

كيف يختفي شاب مثل محمد وتنقطع أخباره عنّا ولا نملك أي معلومة واحدة عنه ولا حتى المعلومة الأساسية التي نبحثُ عن إجابةٍ لها، هل هو على قيد الحياة؟ دخلوا عليه البيت، أطلقوا النار، رصاصتين استقرّتا في جدار غرفة نومه، استطاع أن يفلت لكنّه بعد ذلك أراد العودة إلى البيت، ولم يعد، والسؤال ذاته، منذ 120 يوماً أين محمد؟ 

أفتح عينيّ، وأكشف عن الوجه بسرعة. ليس محمداً. جررتُ قدميّ كانتا ثقيلتين بالفعل، أجرّهما كما لو أنّ كلّ واحدة منهما كتلة إسمنتية كبيرة، صخرة، كان الهواء يعبق برائحة الموت والدم، وكنتُ أريد أن أتنفس. ببطء تام وذهولٍ خرجتُ لاهثاً، تاركاً خلفي خيمة، وثلاثة أجسادٍ مجهولة الهوية، وعند خزّان الماء الصدئ وقفتُ أعب من الماء، وأغمر به جسدي، شعري، عينيّ اللتين شاهدتا كل ما حدث، أردت أن أغسلهما من الداخل بالدمع أو الماء... غرقتُ في الماء كشخص لم يغتسل منذ زمن... 

عدتُ إلى الخيمة، ينتظرني والدي الذي ما إن شاهدني حتى قفز من مكانه كمن أصابه تيارٌ كهربائي وانتفض جسده، سألني بصوتٍ مبحوح شبه غائب: "لقيته؟"... والدي الذي يؤمن بعودة ولده الغائب يوماً ما، يعد أيام الغياب، يقرأ في سورة يوسف ويشعر أنها حكايته الشخصية... يطمئن قلبه أنّه حتى في البئر المظلمة، كان هناك أملٌ ما.

خفضتُ رأسي، شعرتُ أنّني منهك... وأنّني أريد السقوط في نومٍ عميق، أقول فيه وداعاً، ثمّ أقفز خارج كلّ شيء.

نصوص
التحديثات الحية
المساهمون