تجربة اعتقال

21 اغسطس 2024
عمل للفنانة الفلسطينية ملكة أبو عودة
+ الخط -
اظهر الملخص
- في نوفمبر، تعرضت منطقة عايدية لقصف عنيف، مما أجبر عائلتي على النزوح. أصيب اثنان من أفراد العائلة واستشهدت قريبتنا أثناء محاولتها النزوح.
- بعد معاناة ونقص الطعام، حاولنا النزوح عبر الصليب الأحمر، لكننا تعرضنا لإطلاق نار واحتجزت من قبل الجنود الإسرائيليين، حيث تعرضت للتعذيب ونقلت إلى سجن النقب.
- بعد خمسين يوماً من الاعتقال، أُفرج عني في يناير 2024. تعرفت على محتجزين آخرين يعانون من نفس الظروف القاسية، مما أكد لي قسوة الحرب والاحتلال.

في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، وكان يوم جمعة، عند الساعة الحادية عشرة، سمعنا أصوات الدبابات تتجه إلى منطقة عايدية التي نسكن فيها، وتقع في محيط مشفى الشفاء. اشتباكاتٌ عنيفة يتبعها قصفٌ شديد عبارة عن أحزمة  نارية لا تتوقف. وعلى الفور، تجمعنا نحن أفراد العائلة المكونة من ثلاثة عشر فرداً في الطابق الأرضي، تجنباً لشظايا القصف. بعدها قررنا النزوح إلى الجنوب، بخاصة بعد أن أطلقت طائرات الكواد كابتر، النار علينا بشكل مباشر فأصيب فردان من العائلة بجروح متوسطة في الصدر والقدم.

‏في اليوم التالي، تواصلنا مع الصليب الأحمر للتنسيق لنتمكن من الخروج بعد ليلة صعبة جداً من القصف، إذ لم تتوقف الأحزمة النارية والقذائف العشوائية. اعتذر الصليب الأحمر عن عدم تمكنه من الوصول إلى المنطقة لشدة القصف فيها. سمعنا أنّ إحدى قريباتنا جرى التنسيق من أجل إخراج عائلتها من المنطقة المحاصرة، لكننا فجعنا بخبر استشهادها، إذ أطلقت النار عليها بشكل مباشر لتلقى حتفها على الفور، على الرغم من أنها كانت تمسك بيدها طفلا صغيراً وتمشي مع مجموعة من النازحين يحملون الرايات البيضاء. أصابنا الحادث بالذعر، ولازمنا المنزل حيث مرّت الأيام صعبة جداً، نفد فيها الطعام والماء وكنا نكافح للبقاء. وفي اليوم الرابع، وردنا اتصال حول تنسيق لإخراجنا من المنزل عبر الصليب الأحمر.

خرجنا  ثلاثة عشر شخصاً لا نحمل من أمتعتنا شيئاً، فقط علماً أبيض. مع ذلك أطلقت النار علينا بشكل مباشر وكانت الدبابات تقف على جانبي الطريق، في كلّ مفترق من مفترقات شارع الوحدة، وعند كلّ مفترق نمر به تطلق النار علينا. لقد فجعنا بمشهد شهداء من أطفال ونساء على الأرض. بدأ الناس ينادون علينا من النوافذ يطلبون منا أن نعود إلى منازلنا، فالمكان خطر جداً: "سيقتلونكم".  

سألني الضابط ثلاثة أسئلة: أين كنت في 7 أكتوير؟ أين أماكن الأنفاق، أين أماكن الأسرى؟

‏والدي وبسبب هول ما رأى، قرر العودة إلى المنزل. في منتصف الطريق، بكيتُ ورجوته أن نتابع لأنه لو عاد سيقتلونه بكل تأكيد. وبعد مدّ وجزر، وافق والدي على المتابعة. بصعوبةٍ بالغة تمكّنا من الوصول إلى مفترق الشوا. وما إن وصلنا إليه، حتى قُصف المنزل المجاور لنا، فأصيب والدي بنوبة قلبية شديدة لصعوبة ما مررنا به.

في اليوم التالي، توجهنا أنا ووالدي وعمتي وأبناؤها وزوجها إلى الممر الآمن حيث يسمح الجيش للناس بالمرور من الشمال إلى الجنوب، وأثناء عبورنا الممر الأمن سمعنا صوتاً يقول: "صاحب البنطلون الأبيض والذي أمامه توجها إلينا". أشرتُ إلى الجندي الذي كان يبعد عنا قرابة مائة متر على تلة رملية مرتفعة، أسأل "هل أنا المقصود؟". أومأ برأسه بالإيجاب. توجهتُ إلى هناك لأصبح ضمن مجموعة من المحتجزين من النساء والرجال والأطفال، لم أشعر بالخوف لأنني على يقين بأنني سأغادر بعد وقت قصير. في إجراء أولي، طلب الجندي من كلّ واحد منا رفع هويته وذكر اسمه رباعياً. وبعدها بدأ الجندي بذكر أسماء المحتجزين، ومنهم من دعاه للمغادرة، ومنهم من طلب منه الاقتراب إليه. بعد ساعة نادى الجندي اسمي وقال: "اقترب" وأمرني أن أعبر من طريق محدّد. كانت قناصة في الأعلى تصوب بندقيتها نحوي بحذر شديد. طلب مني خلع ثيابي والحذاء والتقدم إليه،  ثم جاء أحدهم وقيدني وعصب عينيّ مع دفعة في وركي لم أفهم  لها سبباً!

ما الذي يجري؟ 

أخذوا كل مقتنياتي ووضعوني على جبل من الحصى الخشنة، بلا ثياب لساعات طويلة، مع تناوب الجنود على ركلي وضربي ليأتي بعدها ضابط اسرائيلي، ويقول لي: "شفتك في أحداث 7 أكتوبر (تشرين الأول 2023) تقتل جنود". أجبته: "لا. ما قتلت حد وعندي إثباتات على هيك؟!". شبّ غضباً واستمر بضربي.

عرفت أنني في سجن النقب حيث بقيت هناك 35 يوماً. الحياة في النقب هي حياة في خيمة تضم ثلاثين محتجزاً

أول يوم اعتقال كان من أصعب الأيام، والليلة الأولى كانت من أقسى الليالي. 

نهاراً، تناوب الجنود على ضربنا بشكل مبرح. حقد وغلّ ينبعثان من عيونهم إذ كانوا يقنعون أنفسهم بأننا شاركنا في أحداث السابع من أكتوبر. وكانوا يضربوننا بلا رأفة. في الليل نقلونا في باص إلى موقع عسكري آخر. في منتصف الطريق، كانت الدنيا تمطر فأنزلونا من الباص، وكنا بلا ثياب، في البرد القارس، مكبلي الأيدي والأقدام ومعصوبي الأعين. وضعونا على جبل من الحصمة (حصى كبير)، وضربونا  بأيديهم وبنادقهم مع المطر الغزير حتى كدت أفقد الوعي. كنت أشعر بأنهم وحوش أطلقت علينا. بعدها تابعوا نقلنا إلى موقع عسكري يسمى بئيري.

بقيت في الموقع لمدة تزيد عن عشرة أيام، مكبل اليدين معصوب العينين، حيث نجلس القرفصاء لمدة تزيد عن سبع ساعات يومياً. ظلّ ‏ألم تلك الجلسة مرافقاً لي طول فترة احتجازي، وكنت أنتظر التحقيق بفارغ الصبر. كنت أريد أن أفهم لماذا أنا هنا؟ وما التهمة الموجهة إليّ؟ كنت أريد أن تتاح لي فرصة الحديث لأدافع عن نفسي. ويتوقف هذا العذاب. بدأت أيام التحقيق الثلاثة. في الجلسات الأولى للتحقيق، أدخلوني إلى جهاز فحص الكذب. سماعة كبيرة على رأسي وجهاز رقمي يتولى سؤالي، وكانت الإجابة بحركة العين. تبعها تحقيق مع ضابط في جهاز الاستخبارات يتقن العربية. سألني ثلاثة أسئلة: أين كنت في 7 أكتوير؟ أين أماكن الأنفاق؟ أين أماكن الأسرى؟

كان التحقيق ينقسم إلى قسمين، ساعة من الاستجواب وست ساعات من الشَبْح. لقد استمر هذا الحال على مدار الأيام الثلاثة. في اليوم الأخير للتحقيق، جاء الضابط بهاتفي المحمول ليفاجأ بصور وفيديوهات الأطفال الضحايا جراء القصف. كنت قد صوّرتهم أثناء تغطيتي للأحداث في مجمع الشفاء. قلت للضابط هؤلاء هم ضحايا هذه الحرب؛ مدنيون لا ذنب لهم. أقنع الضابط نفسه أنّ هؤلاء المدنيين سيكبرون وسيصبحون إرهابيين، فلا مشكلة في قتلهم وأخبرني أنهم من فرحوا وتناولوا الحلوى يوم السابع من أكتوبر. كان تبريراً سافراً للقتل وللعقاب الجماعي. 

بعد أن أمضيت عشرة أيام في موقع بئيري، نُقلت إلى موقع آخر... فتحت عينيّ، ووجدت كلمة شرطة بالإنكليزية، فقلتُ إنه لن يفرج عني كما خيّل إليّ. في بداية الاحتجاز، في الموقع الجديد، عبرتُ من خلال عدة "براكسات" إذ أدخلوني في قفص وأطلقوا كلباً يهاجمني لترهيبي، ثم مررت بعدها عبر "بركس" آخر، بعد أن ادّعى الجندي أنّ هناك طبيباً ينتظرني، لكني فوجئت بستة رجال من أشداء البنية. سألتُ: "أين الطبيب؟" فجاء الجواب بانهيال الستة ضرباً عليّ، مع لكمي في وجهي لتنهمر الدماء غزيرة، وكدتُ أفقد وعيي لشدة ما عانيت، حتى جاء الطبيب وقال: "فيك إشي؟!" أجبته: "زي ما انت شايف!". طلب مني أن أكشف عن جسمي، والصدمة أنه قال لهم: "تابعوا هذا لا يعقل". استمروا بضربي لمدة تزيد عن خمس عشرة دقيقة، بعدها طلبوا مني الوقوف لالتقاط صورة وعلم إسرائيل خلفي. طلبوا مني الابتسام للصورة لكنهم تبصروا أن مظهر الجروح والدماء في وجهي ليس مناسباً لالتقاطها، فأرسلوني لغسل وجهي وتضميد الجروح. 

بعد ذلك، عرفت أنني الآن في سجن النقب حيث بقيت هناك 35 يوماً. الحياة في النقب هي حياة في خيمة تضم ثلاثين محتجزاً، لكلّ وجه قصته وأحلامه... ومثلي جلهم يجهلون سبب احتجازهم وتعذيبهم هنا. نتبادل أطراف الحديث صباحاً ونذرف الدمع شوقاً لأحبائنا مساء.

في النقب، تنام على سرير حديدي تلتحف بطانيتك بكلّ ما تملك من قوة، عسى أن يتسلل الدفء لجسدك في ليالي الصحراء  الباردة. في اليوم الخامس والأربعين لاعتقالي، نودي علي مع مجموعة من المحتجزين. كنتُ أقول لأصدقاء الاعتقال بأنهم سسينقلونني، فودعتهم وبكينا، فقد أصبحنا أكثر من عائلة.

أخذوني إلى مقرّ الإدارة صوروني، وطلبوا مني التوقيع على ورقة. عرفتُ حينها أنّه سيفرج عني قريباً. لم أصدّق. كان أقرب إلى الحلم. وبتُّ أحسب الدقائق للقاء عائلتي. لكنني فوجئت بنقلي إلى براكسات موقع بئر السبع... جننتُ وتدافعت الأفكار في عقلي هل يعقل بأنني سأظل هنا؟! ما الذي يحصل؟ طلبت الحديث مع أحد الجنود الذي اخبرني بأنه سيُفرج عني خلال أيام قليلة وهذا إجراء روتيني. 

بعد خمسين يوماً من الاعتقال والتعذيب خرجت. كان يوم الثلاثاء، وكان اليوم الثاني من العام الجديد 2024، الساعة الثالثة فجراً. انتقلتُ بالباص مع عدد من المحتجزين إلى معبر كرم أبو سالم. لم أصدق أن قدميّ وطأتا مدينة رفح وبأنني صرتُ حراً مجدداً. أذكر أنني في المعبر قابلت رجل شرطة قال لي: "أهلك قلبوا الدنيا عليك". وأراني صوراً لي كانت عائلتي قد نشرتها في مناشدة للبحث عني فترة اعتقالي.

بعد ذلك، طلبت من موظف أممي قابلته الاتصال عبر هاتفه المحمول برقم ابن عمتي فرج وإخباره بخروجي. الموظف أخبرني بأن قريبك لا يصدقني، أمسكت الهاتف، وقلتُ له: "فرج هذا أنا، أنا عايش". أعطى الهاتف لوالدتي، فلم تصدق هي الأخرى، وها أنا أسمع صوتها بعد خمسين يوماً من الفقد... جاء أفراد عائلتي لاستقبالي في المعبر لقد عانقت الحياة فيهم مجدداً، وبكينا فرحاً وشوقاً.


هامش سردي

في السجن، لكلّ وجه قصته وتفاصيله المؤلمة وذكراه التي لا تنسى. مثلاً ،أبو لؤي رجل ستينيّ، كنت أرى في قسمات وجهه والدي. رجل تقيّ محب لكلّ من حوله، كان يبث فينا الصبر كلما شعر بأن الضيق خيم على خيمتنا، اعتقله الجيش من أمام منزله، بعد أن عذبوه أمام أفراد عائلته. أبو لؤي يجهل تماماً أسباب اعتقاله بخاصة أنه كان يعمل داخل الخط الأخضر قبل  بدء الحرب بأيام.

* صحافي من غزّة

 

نصوص
التحديثات الحية
المساهمون