ما يُلاحظ في كتاب فتحي مهديو "الأدب العربي في اللغة الألبانية 1921 - 2021"، الصادر حديثاً، هو أنّ نُقطة بدايته هي سنة 1921، التي ارتبطت بصدور أوّل ترجمة للقرآن إلى اللغة الألبانية، أي أنّ القرآن، باعتباره المَثَل الأعلى في اللغة العربية، بما فيه من سحرٍ وبيان، اعتُبر أجمل ما في الأدب العربي، نظراً لأن مفهوم "الأدب" هنا يضم كلّ نص جميل.
ويبدو أن مهديو ينحو منحى أستاذه حسن كلشي (1922 - 1976) الذي أنجز دراسة تحليلية مرجعية بعنوان "القرآن: أعظم أثر في الأدب العربي"، لتكون مقدّمةً لمُختارات من القرآن صدرت في بلغراد باللغة الصربية عام 1967. وفي هذا السياق، انشغل مهديو بترجمة القرآن إلى اللغة الألبانية في يوغسلافيا الشيوعية، في الوقت الذي كان فيه وجود نسخة من القرآن في أي بيت في ألبانيا الشيوعية يُودي بصاحبه إلى السجن، حتى صدرت عام 1985 باحتفاء كبير لكونها "أول ترجمة كاملة للقرآن من العربية إلى الألبانية".
وما يُفهم من هذا أنه كانت هناك ترجمةٌ أو ترجمات من غير العربية لمسلمين وغير مسلمين، وهو ما كان يشمل أيضاً المناطق الأُخرى في البلقان مثل صربيا والبوسنة وبلغاريا وغيرها. ومن المثير هنا أنّ كسر هذا الحاجز بين تحريم الترجمة والترحيب بها فسَح المجال أمام حالة جديدة، وهي الإقبال على الترجمات المتلاحقة في اللغة الواحدة والتنافُس على إنجاز أفضل ترجمة بنظر صاحبها، حتى أصبح السؤال مشروعاً: هل من سقف لترجمة القرآن؟
صدمة الترجمات الأُولى
في حالة المسلمين في البلقان، الذين ورثوا تقاليد الإسلام العثماني ومن ذلك حُرمة ترجمة القرآن، يُلاحظ أنّ ما حرّك هذا الموضوع لدى الشعبين اللذين يتميّزان بغالبية مُسلمة (البشناق والألبان)، هو ترجمة غير المسلمين له، والتي حملت رسالة أيديولوجية - قومية؛ لقَوْمَنة المسلمين أو جعل المسلمين جزءاً من التكوينات أو الهويات القومية في البلقان. وهكذا نجد أن الترجمة الصربية الأُولى للقرآن التي أنجزها ميتشو لوبيبراتيتش وصدرت بعد رحيله في بلغراد عام 1895، هدفت إلى جذب المسلمين في البوسنة، أو "المحمديين من القومية الصربية" كما يسمّيهم، لكي يكونوا ضمن الدولة القومية (صربيا).
حملت الترجمة الصربية الأولى للقرآن أبعاداً قومية
ومع أن المترجِم كان حريصاً على إنجاز ترجمة أمينة لا تحمل أية إساءة للمسلمين حتى يتحقّق هدفُه، إلّا أن صدورها كان صدمةً لعلماء المُسلمين الذين أفتَوا بحُرمة الترجمة، وحضّ المسلمين على حفظ القرآن باللغة العربية. ولكن هذا الموقف تراخى وصدرت في سراييفو عام 1937 أول ترجمة أنجزها عالمان مسلمان معروفان هما: محمد بانجا وجمال الدين تشاؤوتشفيتش، لتتتالى بعد ذلك ترجمة القرآن من العربية على يد جيل جديد من العلماء حتى تجاوزت الترجمات العشر.
ومثل ذلك كان الأمر مع الألبان المسلمين الذين يشكّلون الغالبية في بلادهم؛ فقد أقدم ناشط قومي معروف هو إيلكو ميتكو تشافزيزي على ترجمة القرآن من الإنكليزية، ونشر الجزء الأول عام 1921، بهدف قومي لكي "يرفع هذا الستار الغامض الذي يفصل بين الألبانيين المسلمين وأخوتهم المسيحيين"، أي أنه أراد بذلك أن يكون القرآن في الألبانية متاحاً للمسيحيين باعتباره يمثّل مصدر ثقافة أغلبية السكان. ومن هنا حرص تشافزيزي، مثل لوبيبراتيتش، على إنجاز ترجمة أمينة لا تحمل أية إساءة للمسلمين. وكما حدث في البوسنة فقد شكّلت هذه الترجمة الألبانية صدمةً لعلماء الدين في ألبانيا، ولكن الأمر انتهى بهم في نهاية عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين إلى الانشغال بترجمات تفسيرية للقرآن، إلى أن وصل الحزب الشيوعي إلى الحكم عام 1944، وأقفل هذا الباب حتى 1991.
في غضون ذلك، كان الاهتمام بترجمة القرآن إلى الألبانية يتزايد في كوسوفو المجاورة، حيث إن ترجمة مهديو الصادرة في 1985، كانت تحمل تحدّياً لعلماء المسلمين باعتبار أنه كان محسوباً على "المستشرقين" لكونه يعمل في "قسم الدراسات الشرقية" بجامعة بريشتينا، ولذلك سارع اثنان من علماء المسلمين في كوسوفو، هما شريف أحمدي وحسن ناهي، إلى إنجاز ونشر ترجمتين مختلفتين صدرتا في 1988. ثمّ تتالت الترجمات خلال السنوات اللاحقة حتى وصل العدد إلى اثنتي عشرة ترجمة، كما هو الأمر في البوسنة. ولكن الجديد الآن أنّ المترجِمين من الجيل الجديد أصبحوا يمثّلون خبرات مختلفة لغوية وأدبية وقانونية وفلسفية وجمالية تركت بصماتٍ في ترجماتهم.
من سعة المعنى إلى نشوة القراءة
تراوحت الترجمات الأُولى من اللغة العربية بين الترجمة العادية والترجمة التفسيرية (كما يفضّل تسميتَها علماء الدين)، التي غاصت في التفاسير، ليصبح المعنى هو الشاغل الأول والأخير، وهو ما يميّز هذه الترجمات على حساب جماليات اللغة المحلّية (البوسنوية أو الألبانية وغيرها). وكان لا بد أن تنقضي ترجمات عديدة من هذا النوع حتى يأتي من ينبّه إلى الجانب الآخر: الأُسلوبي الجمالي في اللغة المحلّية، بحيث يتمتّع القارئ بالمعنى والمبنى في لغته القومية. وقد تمخّضت هذه الحالة في البوسنة أوّلاً مع ترجمة الأكاديمي أسعد دوراكوفيتش بعد عُقود من ترجمته لروائع الأدب العربي من شعر ونثر، والذي يجمع في تكوينه بين اللغة والنقد والأسلوبية والموهبة الشعرية، حيث أصدر في 2004 "القرآن الكريم مع ترجمته إلى اللغة البوسنوية"، وهي ترجمة مميزة للقرآن عمل فيها لسنوات طويلة، وأراد منها أن يتمتّع القارئ البوسنوي بقراءة القرآن بلغته القومية، وليس فقط بمعانيه السامية.
هذه التجربة خاضها أخيراً الحقوقي والدبلوماسي الكوسوفي فاتمير عثماني، الذي قضى عشر سنوات في سفارة بلاده في لندن، حيث تعرّف هناك على تراث العالِم البريطاني في الدراسات الشرقية مرمدوك بكثال، الذي اعتنق الإسلام وتسمّى بمحمد مرمدوك وسعى إلى ترجمة القرآن إلى الإنكليزية، وهو ما تطلّب منه أن يزور الأزهر، ويناقش معه الأمر حتى حصل على موافقته ونشر ترجمته عام 1930.
اعتنت ترجمة دوراكوفيتش إلى البوسنوية بجماليات الأسلوب
ونظراً لموهبته في الأسلوبية الألبانية، قبل عثماني التحدّي، وقرّر أن ينقل ترجمة بكثال، المعتمَدة من الأزهر، إلى اللغة الألبانية لتصدُر في صيف 2022، ولتكون بذلك الترجمة الثانية عشرة، ولكن بأسلوبٍ اعتمد فيه على ما في التراث الألباني من إيقاع، ليجعلَ القارئ الألباني يتمتّع أيضاً بقراءة القرآن بلغته القومية بالإضافة إلى معانيه السامية. ففي "كلمة المترجِم" التي جاءت مختصَرة، يذكر أنه أراد من ترجمته للقرآن "أن تكون بأقل قدر من الكلمات ومن الجمل الرابطة لكي تكون له سيمفونيته وسجعه وإيقاعه، حتى يُفهم ويُحفظ بشكل أحسن وبشكل أسهل".
وبالمقارنة مع تجربة دوراكوفيتش التي احتوت القرآن بنصه العربي، مع انعكاس ذلك على العنوان "القرآن الكريم مع ترجمة إلى اللغة البوسنوية"، أي أن القرآن الكريم هو النص المنزّل في العربية، بينما ما يقرأه البوسنوي في لغته هو ترجمة له، لا يجد القارئ الألباني هنا سوى النص الألباني ليتعامل معه فقط، بينما جاء الغلاف الخارجي بعنوان "القرآن العظيم: معناه في الألبانية"، وفي الغلاف الداخلي ترجمَه عن الإنكليزية فاتمير عثماني بالاعتماد على ترجمة بكثال 1930.
ومع أن "الجماعة الإسلامية" في كوسوفو، التي تمثّل المسلمين دستورياً أمام الدولة وترعى شؤونهم الثقافية، تقبّلتِ الأمر ودعت إلى حفل إشهار لهذه الترجمة الجديدة، إلّا أن بعض المشتغلين في هذا المجال عبّروا عن تحفّظهم، لكون الترجمة من الإنكليزية وليس من العربية بعد كلّ هذا التراث من الترجمات.
ولكن أحد المشتغلين في هذا المجال، الباحث شمسي أيوازي الذي يجمع بين العلوم الإسلامية والعربية والترجمة الأدبية من العربية إلى الألبانية، عبّر عن رأي مغاير لصالح الترجمة الجديدة التي استشاره فيها المترجِم. فحسب أيوازي كانت الترجمات الألبانية السابقة تركّز على المعنى فقط، وتختلف عن بعضها البعض حسب مصادر التفسير التي كانت تعود لها، بينما اعتمد المترجِم الجديد فاتمير عثماني نصّاً وافق عليه الأزهر، ولذلك ركّز كل جهده على "ألبنة" هذا النص حتى يشعر القارئ الألباني كأنه يقرأ نصاً من تراثه.
وبالطبع؛ إن مثل هذه النظرة تحتاج إلى وقت حتى تثبت مصداقيتها، لأن كثرة الترجمات الألبانية للقرآن أصبحت تربك القارئ الألباني لما بينها من اختلافات في المنهج والأسلوب، ولكن من المؤكّد أن هذه الترجمة للقرآن إلى الألبانية لن تكون الأخيرة.
* كاتب وأكاديمي كوسوفي سوري