استمع إلى الملخص
- يروي الكاتب قصصاً مؤلمة عن الفقدان، مثل استشهاد علاء وإصابة محمد، ويصف التناقض بين رغبته في مواساة أخيه وعدم قدرته على تحمل رؤية انهياره.
- يصف الكاتب معاناة الناس من التهجير القسري والتجويع، ويؤكد على أن الاحتلال ينسف أحلامهم وإنجازاتهم، مما يضطرهم للبدء من جديد.
في زمن الإبادة ومع الأيام الأولى للحرب على غزّة، إحساس لا يمكن وصفه، أشعر بحالة من التوهان، القلق، التوتّر، الحزن، الألم، صورة ضبابية نعيشها، ومع كل ذلك أدركت بأن هناك أياما قادمة ربما لم يدركها الخيال، سوف تحدث ونعيشها.
ما يشغلني ليس فقط كيف سنعيش باقي أيامنا؟ ولا أنه هل سوف نباد كما يحدث لغيرنا، بل وحتى أنني أشعر أحياناً أن موضوع إبادتنا ما هو إلا مسألة وقت، ولكن في الآن نفسه يوجد شعور قاتل، ربما يستحضر بحكم تخصّصي وانتمائي السينمائي، وإيماني بأهمية السينما في التوثيق والتأثير في الأفراد والجماعات، يراودني دائماً سؤال: من سوف يروي قصصنا؟ من سوف يكتب ويوثق ليكشف عن الوجه البشع للاحتلال.
من سوف ينتج أفلاماً سينمائية يروي من خلالها قصة علاء، محمد، سلمى، أم العبد، الحاج كامل؟ كلُ منهم لديه قصة تصلح لفيلم سينمائي هوليوودي، يمكن له أن يكشف عن جرائم ارتكبت بحق الإنسانية، وأن يغيّر مفاهيم وسلوك المجتمع الدولي.
يراودني دائماً سؤال: من سوف يروي قصصنا؟ من سوف يكتب ويوثق ليكشف عن الوجه البشع للاحتلال؟
من سوف يكتب عن ذلك اليوم الذي سمعت فيه قصفاً ليس ببعيد؟ وبعد وقت قليل سمعت صرخات ضج صداها في الحارة؟ في البداية لم أعرف مصدر الصوت، مع أني أعرف الأصوات نفسها، مما زاد من خوفي، وحين خرجت مسرعاً، شاهدت عدداً من الأشخاص يتجمهرون أمام بيت أخي، أسرعت ودخلت البيت، وجدت كلا منهم يصرخ ويبكي من جهة، فقد علموا بالخبر.
علاء في الثلاثين من عمره وابنه خالد ابن السابعة، تحكمهما بالإضافة لعلاقة الأبوة علاقة صداقة، دائماً علاء يحدثني بأنه سوف يخلق أنموذجاً إيجابياً بين الأب والأبن في العلاقة، يتحدّث مع ابنه رغم صغر سنه وكأنه صديقه، وعادة ما يصطحبه معه في زياراته، ذهبا معاً لزيارة أخيه محمد في بيته، طلب خالد من والده أن يذهب لبيت عمه الثالث أسامة القريب، ليلعب مع أبناء عمه، وبينما خالد في الطريق سمع صوت القصف، استدار خالد ليرى ما يحدث، فشاهد البيت الذي فيه والده وعمه أصبح كومة من الركام، ولم يكن في حينها غيرهما في البيت، استشهد والده علاء ودخل محمد للعناية المركزة، لم يستوعب الجميع غياب علاء. كان فقده موجعاً. كان صاحب نكتة ويسمونه فاكهة البيت، لما يضفي من روح المرح على الجلسة التي يكون فيها.
جميع أبناء أخي الأكبر مني عمراً تربوا معي في البيت نفسه وكبروا وأصبحوا شباباً قبل أن أستقل عن أخي، للدرجة التي يمكن أن أعتمد عليهم أكثر من أبنائي لكونهم أكبر وأوعى، أما محمد فيتعامل بأكثر جدية، ربما بحكم أنه سجين لثماني سنوات، حيث أمضى مرحلة تكوين الشخصية في السجن، وما أن انتهت محكوميته، حتى بدأ أهله بالبحث له عن عروس، تزوج محمد وأنجب طفلة وطفل، غالباً ما يخطط مع زوجتة لبيتهما، فتلاحظ أنهما يهتمان كثيراً في ديكور المنزل، وفي ألوان غرفة لولو وغرفة عمر.
ينسف الاحتلال في لحظة تعبك وكل ما أنجزت على مدار أربعين عاماً، وعليك أن تنهض من جديد
المهم أن والديه وحتى إخوته يعتبرون محمد لم يعش زهرة شبابه خارج السجن، لذلك الكل حريص على أن يرضيه بأي ثمن، كما أن محمد وبشكل خاص يتعامل مع والده ووالدته بقدسية أكثر من الطبيعي، لإدراكه لمدى المعاناه التي عاناها والداه خلال زيارته طوال فترة سجنه، ومن هنا جميعهم يطلقون عليه الحنون، ليس فقط على والديه بل على إخوته وأخواته، ولذلك الكل يصلي ليل نهار من أجل أن يشفى ويخرج من العناية المركزة ومن ثم من المستشفى.
لا أحد يمكن له أن يزور محمد في المستشفى الأوروبي الواقع بين رفح وخانيونس، ليس لأنه في العناية المركزة، بل بسبب خطورة الوضع الأمني، نعرف أخباره من خلال ممرض يسكن على مقربة من بيتنا، الأخبار مطمئنة ويتحسن حسب كلام الممرض، وبعد عشرين يوماً من وجوده في العناية المركزة، جاء ابن أخي الثاني وقال لي إن محمد استشهد وعلينا أن نذهب لنبلغ عمي بذلك، بكيت وحزنت على محمد وازداد حزني على أخي، كيف له أن يتلقى خبر استشهاد ابنه الثاني محمد في أقل من شهر؟
قلت لابن أخي: هل تعتقد أن عمك سوف يتحمل سماع الصعقة الثانية؟ رفضت أن أذهب معه لأخبره، وقلت له اذهب وحدك فأنا أضعف من أن أرى أخي للمرة الثانية ينهار أمامي، وتركته وذهبت للبيت، لكني لم أعرف ماذا أفعل، عشتُ حالة من التناقض، من ناحية لا أريد أن أرى وقع الخبر على أخي، ومن ناحية أخرى يجب أن أكون بجانبه في هذه اللحظات الحرجة، تخيلته وقد انهار من وقع الخبر، خرجت مسرعا لأحتضنه، لألمس رأسه، لأمسح دموعه، لأحاول مواساته.
إنها ليس حرب إبادة فقط، بل حرب تجويع أيضاً، الكثير من المواد الأساسية غير موجودة، وأهمها الدقيق، وللحصول على ربطة خبز، عليّ أن أنتظر لساعات لدرجة أنني حين استلم ربط الخبز أشعر أنها تعادل في فرحتها لحظات الإعلان عن منح شهادة الدكتوراه، ربما الفارق بينهما أن الأولى، أي استلام ربطة خبز، مغمسة بالدم.
كما أنها حرب التهجير القصري. في إحدى الليالي بينما ابن اختي وزوجته وبناته الأربع المقيمين في مخيم النصيرات يتأهبون للنوم حدث معهم ما يتوقعونه وما لم يتوقعوه. أخبرني ابن أختي: كنا نستمع لصوت القصف البعيد عنا والقريب منا، علينا أن لا نفعل أي شيء سوى أن ننتظر إما أن يقصفونا أو أن يكتب لنا عمر جديد، وهذا حال جميع البيوت التي تحيطها طائرات الاحتلال وتكون قريبة من القصف، طلبت مني ابنتي الأكبر من الصغرى أن آتي إلى مكانها وتأتي هي لمكاني لأنها شعرت بأن مكاني أكثر أماناً، فوافقتها وتبادلنا الأماكن، بعد دقائق قليلة قصف البيت، استشهدت هي والأكبر منها سناً، أصبت في ذراعي وحُرقت زوجتي وابنتي الكبرى، حريق من الدرجة الرابعة، سافرتا على أثرها للعلاج بالخارج، دمرت عائلتي وبيتي، وفوق ذلك كله شعرت بالذنب لأنني وافقت ابنتي على تبديل الأماكن، لا أعرف. يبدو أنها طلبت التبديل لتضحي بنفسها من أجلي، دائما أطلب من روحها أن تسامحني لأني وافقتها على التبديل، بقيت أنا وابنتي الصغرى فقط، ثم بعدها قررت النزوح لرفح.
وجاء عندي للبيت حيث أقاموا معي في البيت في رفح حتى اضطررت أن أتركه.
ثم تلقيت اتصالاً لإخلاء بيتي في رفح، وكنت محظوظاً أنني تلقيت اتصالاً، ففي معظم الحالات لا يتلقى الناس تحذيراً بإخلاء بيوتهم ويتم نسف البيت بمن فيه دون تحذير لساكنيه، ويصبح سكان البيت مع الآثاث والحجارة كومة من الركام، تمتزج دماؤهم مع الرمال العميقة التي يقف عليها البيت، وكأنها تشير إلى أننا سوف نعيد تأسيس البيت بدمائنا، تسيل الدماء وتملأ أركان البيت لتكون شاهداً على حجم الجريمة.
نحن نباد بكل الطرق، على الرغم من إحساسي بأن الاتصال الذي جاءني اتصال عشوائي، وقد يكون من قام به أحد المستوطنين في المستوطنات المجاورة لغزّة كنوع من الاستفزاز، إلا أننا تركنا البيت احتياطاً، فلا مشكلة لدى الاحتلال أن ينسف بيتك بمن فيه ويخلق منه كومة من الركام، ربما تمكث أربعين عاماًً وأنت تؤسس في بيتك حتى يكتمل، ليكون مكاناً آمناً لك ولأولادك وأحفادك، إلا أن الاحتلال في لحظة ينسف تعبك وكل ما أنجزت على مدار أربعين عاماً، ينسف حلمك ويتوقف كل شيء، وعليك أن تنهض من جديد.
* مخرج سينمائي من غزّة