"شهر التراث" الجزائري بعيداً عن الخطاب الرسمي

19 مايو 2021
(موقع تيمقاد الأثري شرق الجزائر)
+ الخط -

ما الذي تحقَّق في تظاهرة "شهر التراث" التي أحيتها الجزائر، مثل باقي بلدان العالَم، بين الثامن عشر مِن نيسان/ أبريل الماضي والثامن عشر من أيار/ مايو الجاري؟ يبدو طرح السؤال ضرورياً لتبيُّن ما إذا كانت التظاهُرة قد خرجت بشيء يُفيد ما يندرج ضمن مجال التراث مِن مواقع أثرية ومتاحف وموروث غير مادّي وغيره، أم أنها لم تكُن سوى احتفاليةٍ لا يُراد منها سوى تسجيل الحضور، وذلك دأْبُ معظم ما يُقام في المشهد الثقافي الجزائري.

لنبدأ مِن إعلانٍ لوزيرة الثقافة، مليكة بن دودة، عن افتتاح أبواب المتاحف الجزائرية مجّاناً للجمهور بين السابع عشر والعشرين من الشهر الجاري، تزامُناً مع "اليوم العالمي للمتاحف" الموافق الثامن عشر من أيار/ مايو من كل عام، وهي الخطوة التي قالت إنها تهدف إلى "تشجيع المواطنين على زيارة المتاحف لاكتشاف كنوز التراث الوطني".

وخلال افتتاحها تظاهُرةً أُقيمت في "قصر ريّاس البحر" بالجزائر العاصمة، الأحد الماضي، بعنوان "الأمن الثقافي: رهان لتنمية ثقافية مستدامة"، دعت الوزيرةُ المواطنين إلى التقرُّب من "الفضاءات التي تحتضن الذاكرة الوطنية، مِن أجل إعادة التصالُح مع موروثهم"، وهو حديثٌ يتضمّن اعترافاً بتلك القطيعة القائمة بين عموم الجمهور و"الفضاءات التي تحتضن الذاكرة الوطنية"، خصوصاً المتاحف منها. لا تُقدِّم وزارة الثقافة والمؤسّسات المتحفية التابعةُ لها كشوفات حسابات تتضمّن أرقاماً عن زوّار المتاحف أو مداخيلها كلَّ سنة، غيرَ أنَّ جميع المؤشّراتُ تؤكّد وجود عزوفٍ كبير عن ارتياد المتاحف في الجزائر، وليس مؤكَّداً أنَّ إتاحة دخولِها بالمجّان لأربعة أيامٍ ستحلُّ المشكلة.

غير أنَّ الأمر ليس مجرّد قطيعةٍ بين الجمهور وموروثه الثقافي، المادّي منه وغير المادّي. ذلك ما تُخبرنا به حوادث الاعتداءات ومحاولات التخريب التي طالت نصباً ومواقع أثرية في غير ما منطقةٍ مِن الجزائر، وهي حوادثُ تطرحُ أسئلةً ليس فقط عن سُبُل حماية هذا التراث المادّي، بل عن أسبابِ هذه السلوكات التي لا يُمكن فصلُها عن خطابات الكراهية التي تستهدف في السنتَين الأخيرتين شخصية الجزائري وهويته وجذوره، وهي خطاباتٌ يُروّجها جزائريون أيضاً، عبر مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام أيضاً.

مِن الواضح أنَّ وزارة الثقافة، والدولة بشكلٍ عام، لا تُولي هذا الجانب كبير اهتمام، مُفضّلةً بدل ذلك، وكما في كلّ المجالات، الاعتناء أكثر بالجانب الأمني؛ من خلال تعزيز دور المؤسّسات الأمنية في حماية الموروث الثقافي. في تظاهُرة "الأمن الثقافي" نفسها – والتي شاركت فيها ممثّلون عن الأسلاك الأمنية إلى جانب مؤسّسات متحفية وخبراء وأكاديميين -، نسامع إلى وزيرة الثقافة وهي تنوّه بجهود المصالح الأمنية في حماية التراث، وتتحدّث عن "تشكيل فرق حماية تحوز الصلاحيات الكاملة والتخويل الرسمي لممارسة واجبات التصدّي لمساعي التخريب والأعمال السلبية التي تطال المواد التراثية"، قبل أن تعود وتعترف بأنَّ "القضية في جوهرها تشاركيةٌ بين الهيئات والمنظَّمات والجمعيات والأفراد".

لنُلق نظرةً، في الأخير، على أشغال يومَين دراسيّين حول "التراث اللامادي ودوره في التنمية وترسيخ قيم المواطنة" نُظّما في الجزائر العاصمة أول أمس وأمس، لنتلمّس جانباً آخر من المشكلة بشهادة أكاديميّين وباحثين في التراث. هذا عبد الحميد بورايو الأكاديمي والباحث البارز في الثقافة الشعرية يقول إنَّ التراث اعتُبر في الجزائر، ومنذ الاستقلال، معادياً للحداثة، وهذه الأكاديمية مباركة لحسن تقول إنَّ الموروث الثقافي الجزائري لا يزال مهمَلاً على الصعيدَين العلمي والسياسي. أمّا بقية المداخلات، فتشترك مع المداخلتَين السابقتَين في الدعوة إلى "دراسة الموروث الثقافي الجزائري علمياً وجمعه والتعريف به، قبل الانتقال إلى استغلاله في التنمية وترسيخ قيم المواطنة". وبما أنَّ حديث المختصّين لا يزال يدور في هذه الحلقة، فهذا يُعطي صورةً واضحةً عن الشرخ الذي يفصل التراث الجزائري في الواقع عنه في الخطاب الرسمي.

المساهمون