إذا كان هناك اعتراف بدور العرب في الحفاظ على المعرفة - من الفلسفة إلى علوم الحياة - خلال العصور الوسيطة (التي تقابل ما يُعرف بعصور الظلمات الأوروبية)، أي أنهم كانوا حلقة الوصل بين زمن الإشعاع الإغريقي وعصر الحداثة، فإننا نقف على اختلاف بين تقييمين لهذا الدور؛ الأوّل يقول بأن العرب لم يكتفوا بدور نقل الأمانة الإغريقية كما هي إلى الغرب بل أضافوا لها وطوّروا الكثير من مقولاتها، مقابل رأي ثان كان يحصر دورهم كمجرّد ناقل لم يمتلك أفقاً نقديّاً يتيح تجاوز الإرث الإغريقي.
في كتابه "الشكوك على أرسطوطاليس.. فصول في تاريخ العلوم العربية" الصادر مؤخراً عن منشورات "نيرفانا"، يعود الإبستيمولوجي التونسي محمد بن ساسي إلى عدد من نصوص الفلاسفة والعلماء العرب القدامى حول الفيلسوف اليوناني ليفحص موقع العرب في تاريخ المعرفة؛ هل هم مجرّد ناقل بين "غرب قديم" و"غرب حديث"، بلغة المؤلف، أم كانت لهم إسهامات لولاها ما كانت اكتشافات غاليليه ونيوتن وكبلر ممكنة.
عبر عودة متأنية إلى نصوص "شرّاح" أرسطو في مجالات متباينة؛ مثل ابن باجة مع الديناميكا، وابن سينا ضمن البصريات، وابن فتح الخازني في علم الحيل/ الميكانيكا، يحسم بن ساسي الكثير من ذلك الجدل المطوّل حيث يثبت بأن من نتداول على تسميتهم بالشرّاح إنما هم نقّاد، فكثيراً ما خرجوا عن أقوال صاحب "الأورغانون" في مسائل طرحها بنفسه واعتقد بأنه وضع لها حلولاً علمية، غير أن علماء المسلمين "خرجوا عن تعاليم المعلّم في اقتراح حلول مغيرة"، وفق عبارة المؤلف. فهل يمكن - بعد ذلك - أن نحصر من يتجرّأ على مثل هذه المقولات الفاحصة في خانة الشرح؟
لا يبيّن بن ساسي مساهمة العرب في تطوير الإرث الأرسطي بلهجة المدافع أو المطالب بالاعتراف، كما درجت عليه الكتابات العربية في تاريخ العلوم ( وهي نزعة ينقدها بشكل متفرّق في مواضع كثيرة من كتابه)، حيث يصوّر علاقة العرب بأرسطو كحالة من التوتّر بين نقيضين؛ الإيمان بعلمه والشك فيه، في هذا السياق يضيء الكثير من السجالات بين علماء المسلمين (ابن رشد/ ابن الهيثم، وابن سينا/ البيروني...).
من هنا، يعتبر الباحث التونسي أن الغرب الحديث قد ورث التراث اليوناني الذي حافظ عليه العرب، كما أنه ورث أيضاً تراث العرب، وقد حرصوا هم أيضاً على أن يكونوا نقاداً لا شرّاحاً، وهو ما يسمّيه بن ساسي بـ"الاختيار العربي ليخلقوا أنفسهم بأنفسهم"، في إشارة لطيفة إلى أمم أخرى ورثت علم الإغريق وتبدّد بين أيديهم أو لم يعرفوا قيمته أصلاً فغفلوا عنه، من ذلك الرومان باعتبارهم حلقة وصل أخرى بين "الغرب القديم" و"الغرب الحديث".
رغم أنه يمكن القول إن كتاب بن ساسي يقدّم ما يشبه الإجابة الحاسمة في ما يتعلّق بتقييم دور العلماء العرب في تاريخ العلوم، إلا أنه وضع لنفسه مطمحاً آخر ورد في مقدّمة الكتاب حيث يقدّم ملاحظة دقيقة يفتتح بها إشكالية ثانية أكثر خفاء وعمقاً حيث يشير بن ساسي إلى أن الفلاسفة العرب و"إن شكّوا في مجالات عديدة من الإلهيات والطبيعيات وحتى المنطقيات فلا أحد تجرّأ أن يعنون نصاً من نصوصه بعنوان "الشكوك على أرسطوطاليس" على غرار ما فعل الرازي مع جالينوس، وابن الهيثم مع بطليموس".
من هذه الزاوية يبدو كتاب بن ساسي مثل إضافة كتاب ناقص في المكتبة التراثية العربية، كتاب نجد فصوله متفرّقة في كتب كثيرة، وكأنه عمل جماعيّ - بمفردات حديثة - لعلماء المسلمين أشرف عليه الإبستيمولوجي التونسي، وهو الذي يشير إلى عدد من المؤلفات العربية القديمة التي كان من الممكن أن تعنون بـ"الشكوك على إرسطوطاليس" مثل كتاب "الإشارات والتنبيهات" لابن سينا. فكأن بن ساسي قد استخرج من التراث العلمي العربي كتاباً من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل بحسب مفاهيم من المعجم الفلسفي الأرسطي.