ما الشعور الذي ينتاب المرء حينما يعي أنه يتم تمثّله بوصفه "مشكلة" أمنية مُحتملة، فقط بسبب انتمائه الديني وخلفيته الثقافية؟ كيف يؤثر هذا الشعور على حياة مُسلمي الغرب تحديداً؟ وكيف يتعاملون معه في حياتهم اليومية وفي علاقتهم وفي عملهم؟ هذه الأسئلة وغيرها تحاول دراسة ألمانية حديثة التعاطي معها.
صدرت الدراسة هذه السنة عن دار "ترانسكريبت" بعنوان "أن تكون مسلمًا في الخطاب الأمني" وهي تنتمي إلى حقل الدراسات التطبيقية عن العنصرية. وعلى رأس مؤلفي هذه الدراسة نجد الباحثة إيمان عطية، المتخصّصة في حقل دراسات العنصرية إلى جانب كل من أوزان كسكينكيليك وبشرى أوكو. ويتألف هذا العمل من مُقدمة مُوجزة وخمسة فصول إلى جانب خاتمة وافية عن نتائجه.
في مقدمة الكتاب، ينطلق المؤلفون من فرضية مفادها أن للعنصرية ضد المسلمين عواقب قد تجاوزت التصوّر الغربي النمطي عن المسلمين من كونهم "غرباء" و"مشتبها" فيهم إلى ما صار يُشكّل ازدراءً مباشرًا بل ومُمنهجًا للإسلام والمسلمين حتى على المستوى المؤسساتي، وهو ما يسعى مؤلفو الكتاب إلى التحقق منه عبر دراسة "الخطاب الأمني" الألماني حول المسلمين السائد حالياً بوصفه عنصرية مؤسساتية لم تُنجز حول أشكالها ونتائجها كتابات علمية رصينة بالشكل المأمول.
يوجد في الغرب ازدراءٌ مُمنهجٌ أكثر فأكثر ضد الإسلام
في هذا السياق يُعرّف الكتاب "الخطاب الأمني" بكونه ممارسة هَيْمَنية مُمنهجة، يتم فيها مراقبة الأشخاص المنظُور إليهم كـ "مسلمين" وقياس مدى "انضباطهم" في المجتمع المُهيمن عن طريق استهداف سلوكهم وحركتهم في المجال العمومي بهدف إخضاعهم لما يُعرف بـ "الثقافة الرائدة"، وهو مصطلح مثير للجدل استحدثه بسّام طيبي، ويُفهم من خلاله هيمنة الثقافة الألمانية على باقي المكونات الثقافية للمجتمع الألماني.
في فصله الأول، يتّفق مؤلفو الكتاب أنه من الصعب الجزم علمياً أن أحداث الحادي عشر من أيلول / سبتمبر 2001 تشكل نقطة بداية للعنصرية ضد المسلمين كما يتم حالياً الترويج له، فتَمَثُّل الأقلية المسلمة كمشكلة قائمة، هو تقليد تاريخي طويل؛ فالتدابير الأمنية ضد المسلمين يعود معظمها إلى أواخر القرن الخامس عشر وأوائل القرن السادس عشر؛ ففي شبه الجزيرة الإيبيرية، كان على المجموعات السُّكانية المسلمة، أن تتحمّل بدايةً تدابير تقييدية مختلفة مباشرة بعد استيلاء الحُكام الكاثوليك على السلطة، ثم ما لبثوا أن أُجبروا على تغيير ديانتهم ليتم بعد ذلك ترحيلهم في نهاية المطاف إلى شمال أفريقيا. أيضاً يشير هذا الفصل إلى سياق تاريخي آخر من العنصرية الغربية والمُتمثّل في الاستعمار الأوروبي، والذي شهد تغيّرًا في التمثّل الغربي عن "المحمديين" في كل من "الشرق" و"أفريقيا"، حيث اتخذ التصور القديم عن "خطرهم" صيغة جديدة ارتبطت بالعنصرية الحديثة تجاههم.
يتضمّن الفصل الثاني تأملات وأفكارا حول مفاهيم مركزية ضمن هذه الدراسة، مثل: الحكامة والمواطنة والسياسة القومية والعنصرية المؤسساتية إضافة إلى تعريف بأشكال المقاومة الرمزية، التي تمارسها الأقليات ضمن المجتمع المُهيمن، وذلك بهدف إبراز الترابط الذي يراه مؤلفو الكتاب قائمًا بين العنصرية الحديثة والعنصرية القديمة.
وفي هذا السياق يشير هذا الفصل إلى آليات إنتاج "معرفة" مجتمعية وثقافية محددة عن المسلمين غالباً ما يتم تكثيفُها في عنصرية جديدة معادية لهم، حيث يصير هنا لسيناريو التهديد مرة أخرى أهمية كبيرة، ممّا يجعل الترابط بين العنصرية الحالية المُعادية للمسلمين بكل من عنصرية ما قبل الحداثة وعنصرية الحداثة واضح المعالم، بحيث تبدو المواقف الحالية المُقدّمة على أنها "نقد" الإسلام وكأنها قادمة من العصور الوسطى بشكل لافت للنظر.
يُعرّف الكتاب بأشكال المقاومة الرمزية التي تعتمدها الأقليات
خُصصّ الفصل الثالث للتطرق إلى المنهجيات المُستعملة في الدراسة. وعن مسوغات الدراسة التطبيقية يقول مؤلفو الكتاب أنه كان من الضروري أخذ الواقع الاجتماعي اليومي للمسلمين كنقطة انطلاق للدراسة الميدانية، ويضيف الباحثون أنه على مدار ثلاث سنوات انصبّ الاهتمام البحثي على نظرة وتعامل المسلمين أنفسهم مع الخطاب الأمني في ألمانيا؛ حيث طُرحت عليهم أسئلة مفتوحة، من مثل: كيف يستجيبون لمخاطبتهم باعتبارهم "تهديدًا" أمنيًا؟ وكيف يُموقِعُون أنفسهم حيال النقاشات والحوارات المجتمعية حول الأمن من أجل جعل اهتماماتهم واحتياجاتهم وخبراتهم مع العنصرية والتمييز مسموعة على نطاق أوسع؟
وهذا ما يُحاول الفصل الرابع الإجابة عنه عبر عرضٍ مُفصّلٍ لنتائج المقابلات الفردية مع المشاركين والمحاورات الجماعية في ما بينهم، وقد عبّر المشاركون في الدراسة عن شعورهم بالتمييز المُرتبط بالخطاب السائد حولهم بوصفهم تهديداً أمنياً؛ فبحسب شهاداتهم هم يواجهون العداء اليومي في الشارع، ويُعانون من التمييز المؤسسي في المؤسسات التعليمية، وفي سوق العمل والسكن وفي النظام الصحي، ويتعيّن عليهم التعامل مع تلك القضايا التي تبدو "إسلامية" وبالتالي "إشكالية" في الخطاب الأمني، بل ويتم حثّهُم على اتخاد مواقف من أفعال "المسلمين" الآخرين، والنأي بأنفسهم عن "أولئك" المسلمين "الأشرار" وإثبات أنفسهم باستمرار كمواطنين مندمجين ومستنيرين.
أما الفصل الخامس والأخير، فقد اهتم بعرض وتحليل "آليات الدفاع" لدى المشاركين واستراتيجياتهم (حتى الاستباقية منها) التي تحدثوا عنها في مواجهة تداعيات الخطاب الأمني حولهم. إن تجربة التشكيك الجمعي بل واليومي حيالهم على أنهم "تهديد" بسبب دينهم وانتمائهم الثقافي لها تأثير عميق على مشاعرهم وصورتهم الذاتية، بل وحتى في تفاصيل حياتهم اليومية (مثل الأماكن التي يُظهرون فيها وجودهم أو تلك التي يتجنّبونها، وممارستهم لتدينهم وكيفية لباسهم واستعمالهم للغاتهم الأصلية في المجال العمومي). غير أن هذا الفصل يَخْلُص أيضًا إلى أن الأقلية المُسلمة ليست دائماً مُجرد موضوعات "جامدة" لسلطة فوقية، حيث عبّر بعض المشاركين عن الطبيعة الغنية لاستجابتهم أثناء مخاطبتهم كمسلمين، فغالبًا ما يُنوّعون خصائص هويتهم "المسلمة" حينما يُضيفون إليها هويات فرعية من مجالات النوع والطبقة والتعليم والهجرة والثقافة والعرق واللغة، ولون البشرة والدين والكفاءة والعمر.
تنقسم خاتمة الكتاب إلى شقيين رئيسين؛ يضم الشق الأول خُلاصات مُركّزة للنتائج المتوصل إليها، ولعل من أهمها أن تاريخ الإرهاب الحديث ليس هو تاريخ الجماعات الإسلاموية كما يُصّورها الخطاب الأمني، لا سيما وأن الأشكال الأخرى من عنف الدولة وغيرها تنطوي بدورها على مخاطر أكبر من الناحية الإحصائية على الأمنين الداخلي والخارجي. وفي الوقت ذاته، فإن العنف العنصري واليميني المتطرف المُوجّه ضد المسلمين لا يزال يتم النظر إليه على أنه فردي وهامشي بل ويتم التقليل من شأن النقد الموجه بصفة عامة نحو العنصرية التي تستهدف المسلمين بل ويتم اللجوء عبر الإعلام إلى تشويه مصداقية هذا النقد. في حين أن الشق الثاني يقدم توصيات وتصورات نحو حكامة أكثر مواطنية في ألمانيا لا تقيم فروقات بين المواطنين ولا ترمي الأقليات العرقية والدينية بعدم الولاء.
* باحث مغربي مقيم في ألمانيا