مونديال 2022 وموضة الوطنية الجديدة
تنظم دولة قطر فعاليات النسخة الثانية والعشرين من كأس العالم، وهي أول مرّة تحتضن فيها دولة عربية هذه التظاهرة الكروية العالمية. يجمع الكثير من الناس على أنّ هذه النسخة فريدة من نوعها شيئا ما، من تنظيم قطر الذي أبهر العالم وأشاد به الجميع، والذي لم يخل من "لمسات عربية" أثارت جدل الغرب ككلّ مرّة، إلى إقصاء منتخبات عالمية كبيرة في عالم كرة القدم وتألق أخرى لم تكن بالحسبان. لكن العجيب في الأمر أنّ هذا المونديال وكأنما أخذنا إلى عالم آخر موازٍ لعالمنا المليء بالمشاكل والأزمات والتقلبات، وكأنما هناك مخدّر دسته أيد ناعمة في شرياننا. فجأة نسينا الحرب في أوكرانيا، أمل الثورات العربية في التغيير الذي انطفأ بريقه، ونداءات منصف المرزوقي وشرارات الحرية. نسينا ارتفاعات الأسعار ومشاكل الاقتصاد وأزماتنا، رمينا علاء عبد الفتاح ومعتقلينا في غياهب النسيان، ولم نكترث لأصواتنا الداخلية التي تصدح بالحرية والكرامة والعدالة.
عندما أرى منشورات الناس على مواقع التواصل الاجتماعي وهي تمجد نصر المنتخب المغربي، والفرحة التي خلّفها في نفوس العرب ككل، الفرحة التي كانوا بانتظارها، والتي أتت في وقتها المناسب على حدّ تعبيرهم، أشعر وكأن الناس في تخدير تام، وأفهم سبب تخلفنا وتأخرنا التنموي. لا أجرّم إحساس الفرح والنشوة الذي ينتاب الشخص عند فوز منتخبه الوطني، فهو شعور فطري وطني يكرّس انتماءنا للأرض وللوطن، لكن المبالغة والتعظيم والتمجيد الزائدة عن الحد إنما من العبثية وانعدام المسؤولية، خصوصاً عندما تكون مشاكل الأمة أكبر من أن تقلّل من شأنها كرة مستديرة. المغاربة الذين أسعدوا العالم العربي يأتون في المركز المئة من أصل 146 دولة في مؤشر السعادة العالمي، وحوالي النصف من بينهم يعانون أو عانوا من اضطرابات نفسية أو عقلية على رأسها الاكتئاب، بحسب تقرير رسمي.
المغاربة الذين أسعدوا العالم العربي في كأس العالم يأتون في المركز المئة من أصل 146 دولة في مؤشر السعادة العالمي
في نهاية كلّ مباراة للمنتخب المغربي، يخرج المواطنون للاحتفال في الشوارع، أطفال ومراهقون، وحتى الكهول والشيوخ تراهم يرقصون وتتعالى أصواتهم وصراخهم الهستيري كالمجانين. تمتلأ الأزقة وتتعثر حركة المرور في الشوارع بالسيارات المصفوفة على طول النظر، فيخيّل إليك أنك في بلاد من أغنى البلدان، لكنك في الواقع في بلاد يلزم فيها حوالي 154 عاماً لمواطن يتقاضى ما يعادل الحدّ الأدنى للأجور من أجل قبض ما يتقاضاه ملياردير مغربي واحد. هذه الأعداد الغفيرة لم تخرج إلى الشارع للتنديد بارتفاع الأسعار وافتراسية النظام، لا ضد سياساته التفقيرية الممنهجة، ولا ضد القمع والاعتقالات التعسفية القسرية. أما مغاربة العالم، فمنهم من احتفل على طريقته الخاصة، الشغب و"السيبة" اللذان ليسا بالطباع الدخيلة على الجمهور المغربي، سيارات مشتعلة، هستيريا وبلطجة. بات هذا تعبيرنا عن الوطنية وحبّ الوطن، فمن لم يرفع الراية الحمراء في الشارع، ولم يصرخ ولم يحتفل بـ''النصر'' الذي حقّقه أسود الأطلس ليس وطنياً، ومن لم يشارك صورة وزير الخارجية ورئيسي الأمن الداخلي والخارجي، في مدرجات ملعب الثمامة القطري، وهم يشجعون الفريق كأيّ مغربي شعبي، على صفحاته وهو يتباهى بأقوى أجهزة الدولة المغربية التي حضرت شخصياً، ليس بالوطني؟!
ماذا عن هؤلاء القابعين في السجون ظلماً وزوراً؟ أليسوا بالوطنيين؟ ماذا عن النساء العاملات اللاتي يتهافتن ويتصارعن للالتحاق بجنان الفراولة الإسبانية لكسب قوتهن، وكلهن صبر وشموخ مقابل الاتجار والتحرّش الذي يتعرضن له؟ ماذا عن الأطفال والشباب الذين لم يجدوا ملجأً إلا البحر للعبور إلى برّ أكثر أمانا وحرية وكرامة؟ هل هؤلاء ليسوا بالوطنيين؟
بموازاة هذه الأحداث الصاخبة والحماسية، يأتي نداء الجبهة الاجتماعية المغربية بمعية مناضلين وبعض مؤسسات المجتمع المدني للاحتجاج على تدني الوضعية المعيشية التي يعرفها الشعب المغربي، ضد الغلاء والقمع والقهر، فيخيّل إلينا أنها في عالم آخر غير الذي نعيش فيه لأنّ اختيارها التوقيت لم يكن بالسديد. فالشعب المغربي لم يحرّك ساكنا، حتى وهو في كامل قواه العقلية، فكيف يحرّكه وهو تحت مخدر مفعوله يمكن أن يسري على أمة بأكملها؟ يعلم النظام علم اليقين أنّ هذه النداءات، وحتى اللقاءات الفكرية التي تنظمها الأقليات الحقوقية، لم تعد تشكل خطراً، لأنها لا تستقطب الكتلة، ولا هي قادرة على جذب الأغلبية وعامة الناس والتوحيد بينهم، ترويض عقول الشعب هو من اختصاص النظام ومشروعيته. هو نفس النظام الذي ضرب مصداقية الأحزاب والجمعيات وحتى المناضلين، حتى صار الناس في شتات فكري أيديولوجي لا يثقون إلا في مؤسسة واحدة تتمثّل في شخص واحد، هو الجامع الموّحد والآمر الناهي.