ربيع شعوب ثان.. أمل جديد أم نكبة أخرى؟
من معقل ثورة الياسمين تنبثق شرارة ربيع ثان، لكن هذه المرّة في سياق أشدّ وطأة، فتونس التي كانت لها الريادة في امتطاء صهوة الشارع بعد موت محمد البوعزيزي من قلب سيدي بوزيد، هي اليوم السبّاقة للتلويح براية الثورة مرّة أخرى. لم يتخيّل أحد قط، في سنة 2011، أنّ مصادرة عربة فواكه يمكن أن تغيّر تاريخ منطقة من العالم برمتها، لكن في الحقيقة، شعور الإهانة والظلم الذي خلفته أضرم النار في جسد البوعزيزي وجسد المنطقة العربية كلّها.
وتشاركت شعوب الحراك حينها نفس المعضلات الاجتماعية والسياسية، وتدهور في المعيش اليومي، وبطالة الشباب، ومأسسة الفساد، واشتداد سطوة الحكام من زين العابدين بن علي، مروراً بحسني مبارك إلى الأسد، ولائحة الأسماء معروفة لا يمكن استئصالها من الذاكرة. فالأنظمة العربية تحذو نفس الحذو، تسير على نموذج موحد قائم على الإقصاء والقمع وتركيز الثورة على مستوى النخب السياسية. فكما في تونس، كان كلّ شيء ضمن العائلة الحاكمة، وفي مصر وليبيا وغيرهما، كان في المغرب في يد العائلة الملكية.
لم تفلح الثورات في بلوغ المراد المنشود، بل كلّل بعضها بحروب لم تعرف نهاية لها حتى اللحظة، ضحاياها أبرياء لم يناشدوا إلا الحرية والكرامة، وما زالت النتائج غير الحميدة تأتي في البروز. سقطت الأنظمة والحكام، وماذا كان؟ جاء رؤساء أشدّ بطشا من الذين قبلهم، أُشبعت السجون بالمعتقلين، والبلدان التي تضيء من بريق الديمقراطية باللاجئين. لم يكن هناك انتقال ديمقراطي، وإنّما انتقال من السلطوية إلى سلطوية تحت حجاب الديمقراطية أو إلى ديمقراطية هجينة. كان كلّ التفكير والمراد مصوّباً نحو تحقيق الانتقال إلى الديمقراطية، وتمّ إغفال التنظير والتخطيط للسياسات والمؤسسات الكفيلة بضمان استمرارية هذه الديمقراطية واستدامتها. الحلقة المفقودة في طرح البديل كانت دور المؤسسات الجوهري في الإرساء الوطيد للديمقراطية، المؤسسات التي تشكّل قوام الدولة وهيكلها العظمي، وهي جهاز التحكّم في سقوط وقيام الأنظمة.
الأنظمة العربية تحذو نفس الحذو، تسير على نموذج موحد قائم على الإقصاء والقمع
كان المغرب آنذاك استثناء في التغييرات التي شهدتها دول الحراك، اعترف النظام بفشل مشروعه السياسي عندما قرّر تغيير الدستور وتعويضه بآخر أكثر ملاءمة لدولة الحق والقانون والحريات، أقلّ انعكاساً على الواقع، للهرب من السياسات الإصلاحية التي يمكن أن ترنو إلى إعادة هيكلته. نجح النظام في امتصاص غضب الشارع، فمع بداية اشتعال الثورات لجأ إلى مجموعة من التدابير ذات الطابع الاقتصادي، خاصة في محاولة ترقيع الوضع المعيشي للمواطن، ورفع نفقاته العمومية للزيادة في أجور العاملين وتوفير فرص شغل إضافية، والرفع من ميزانية المقاصة من أجل تخفيض أسعار المواد الغذائية بالأساس. فكانت النتيجة أن سجل المغرب خلال نفس السنة التي عرفت فيها مجمل دول الربيع كساداً اقتصادياً مهولاً، أدنى معدل بطالة خلال عهد محمد السادس، وأعلى ناتج داخلي خام في تاريخه إلى حدود تلك الفترة.
يأتي النداء للخروج إلى الشارع الذي ترفعه تونس وبعدها مصر في فترة تعرف فيها حقوق وحريات الأفراد أحلك أيامها. ففي هذه الأثناء التي تستضيف فيها مصر فعاليات قمة المناخ COP27، يخوض الناشط الحقوقي، علاء عبد الفتاح، المحكوم بخمس سنوات سجن، إضراباً مفتوحاً عن الطعام والماء بعد سبعة أشهر من الإضراب عن الطعام فقط. ليس وحده من يقبع في غياهب السجن ظلماً، بل هناك الآلاف من المعتقلين السياسيين ومعتقلي الرأي قابعون في سجون ما يسمونه العالم العربي، وكأنما هناك نص موحد مفصّل وُزّع على رؤساء وملوك هذه الدول. في هذا الوقت الذي يعيش فيه العالم في صراع مع المناخ والكوارث الطبيعية المتفاقمة التي باتت تشكل تهديداً صريحاً للبشرية، ما زالت الشعوب العربية في صراع مع الحريات والتعبير والحقوق الأساسية المشروعة التي ناضل من أجلها الغرب في القرن الثامن عشر.
يشكل المغرب اليوم استثناء مرّة أخرى، بالرغم من كلّ ما يعيشه المغاربة من سياسات تفقيرية وارتفاع في أسعار كلّ المواد، السلع والخدمات تقريباً، دون الحديث عن التضييق على الحقوق والحريات، إلا أنّ الأمل في تحريك الساكن بات شبه منعدم. كيف يمكن أن نأمل العكس، والخوف أصبح مسيطراً على ضمائر الأفراد، وائداً للثائر الواكن في كيان كلّ فرد؟
لم تجد الشعوب الجارة من حلّ إلا في الثورة والتمرّد، والثورة بدورها تحتاج من الجسارة، وهي ما تمّ قتله على مرّ هذه السنين في الشعوب العربية، وتجربتنا مع الثورات لا تعدنا بالأمل... فهل تبقى الثورة هي الحل؟