مشكلتنا ليست "آل وهبي" وصحبه
حالة الدهشة التي خلّفتها شبهات الفساد التي شابت مباراة المحاماة بالمغرب تثير الحسرة أكثر مما تثيرها معضلة الفساد عينها في البلاد، وكأنّ ما شاهدناه استثناءً يحدث لأول مرة، لكن الاستثناء الوحيد الذي يمكن أن يحصل هو العكس. فكيف للنزاهة أن تتفرّع عن شجرة خبيثة الأصل؟
ليست مباراة المحاماة وحدها ما تتطلّب أن يعاد النظر فيها، بل منظومة العدالة ككل من مؤسساتها إلى أصغر موظفيها.
إنّ المتأمل في هذه الحالة من الصخب واللغط والسخط سيتبيّن له أنّ هناك استقطاباً للرأي العام لكي يصبّ في مجرى واحد. مع انتهاء مفعول مخدّر المونديال و"فتوحات" المنتخب المغربي المجيدة، سنجد عقولنا وأفواهنا، وحتى أصابعنا، تلهث وراء مغامرات وزير العدل المغربي، عبد اللطيف وهبي، وملاسناته وتصريحاته التي لا تثير جدلاً إلا فيما بقي مما يسمّونه الآن في المغرب بالصحافة، والمغاربة التائهين في غيابات جبّ المخزن العميق. ليس وزير العدل فقط، بل أيّ جدل تخلقه جهات معينة، حتى لو كان ضدها أو لصالح أعدائها، من أجل شغل المواطن في قضايا ليست الأهم، ولا الأساس إطلاقاً.
ليست هذه المرة الأولى أو الأخيرة التي يتم التلاعب فيها بنتائج المباريات، أو يتم إنجاح متقدّمين لتلك المباريات لتوّفر شرط القرابة العائلية أو الولاء للنظام، عوض شرط الأهلية والاستحقاق. والمغاربة يعرفون هذا مثلما يعرفون بنان أصابعهم، وعند التقدّم لكلّ مباراة للعمل، أو حتى لولوج المدارس أو بعض أسلاك الدراسات العليا، يستحضر المغربي شرط "باك صاحبي" بقوة، والأخطر، بإيمان قويين.
هذا النقاش العام والجدل العقيم القائمان لا يمكن تبرئتهما واعتبارهما على أنهما ممارسة لحرية التعبير وتجلٍّ لدولة الحق والقانون التي تكفل لمواطنيها الحق في محاربة الفساد والتنديد به، كما يحسب البعض، أو شجاعة وعقلانية نابعة عن الرأي العام المغربي. لكنه حلقة من مسلسل صلبه المحاماة والمحامون بالمغرب، ولا يتسنّى لنا معرفة الغاية منه أو من يلعب بكراكيزه (الدمى المتحرّكة)، لكن الوقت كفيل بذلك. بدءاً من توقيف القاضي المعزول والمحامي محمد الهيني، لمدة ثلاث سنوات من مزاولة مهنته، الذي كان في وقت ما مناضلاً ومناصراً للمظلومين وضحايا الانتهاكات الحقوقية، لكنه عرف في الأخير بولائه الخالص للقائمين على هذه الانتهاكات والعلاقة التي تجمعه بهم.
ليست مسابقة المحاماة وحدها من تتطلّب أن يعاد النظر فيها، بل منظومة العدالة ككل من مؤسساتها إلى أصغر موظفيها
مروراً بمحامي الدولة الجسور محمد كروط، الذي يتعرّض لحملات التشهير من طرف المواقع الإخبارية المتخصّصة في "نشر الغسيل" والمقرّبة من رجال السلطة، وهي نفس المواقع التي لم تكن تضيّع الفرصة لنشر تصريحات المحامي وتمكينه وهي تجوّد بما يملى عليه من بيانات وخطابات. المحامي الذي رافع ضد معتقلي الريف وساهم في توزيع سنين من السجن والظلم، وهو نفسه من توّرط في خمس عشرة سنة من السجن للصحافي توفيق بوعشرين، في قضايا إتجار بالبشر واستغلال جنسي واغتصاب وغيرها. هو نفسه نجده موضع اتهام بالاغتصاب من قبل خادمته منذ سنة 2016، والتي بحسب ما نشره بعض الصحافيين آنذاك كانت قد لجأت إلى مخفر الشرطة بغطاء السرير الأبيض المبقّع بآثار الدم لتقديم الشكاية ضد ربّ عملها والمدافع عن حقوق ضحايا الاغتصاب والاتجار والانتهاكات الجنسية، لكن لم تحرّك النيابة العامة ساكناً، ولم يرفع الرأي العام صوتاً أو حتى حسّاً خافتاً للتنديد.
كيف يقبل العقل والمنطق السليم والضمير الحي أن يرافع متهم بالاغتصاب من أجل ضحايا اغتصاب، وأن يدنس حرم المحاكم؟ وكيف يهاجِم أبرياء، تهمتهم أنهم طالبوا بحقوقهم المشروعة، وما زالوا قابعين بالسجون إلى اليوم باسم دولة الحق والقانون، وهو في الأصل موضع شبهة فساد أخلاقي؟
ووصولاً إلى احتجاجات المحامين ضد الإجراءات الضريبية الجديدة التي فرضها قانون المالية لسنة 2023، لا يخفى علينا أنّ المحامين المغاربة لم يتحرّكوا إلا عند المساس بجيوبهم، ولم يقفوا ضد قرار السجن بثلاث سنوات للمحامي النقيب ووزير حقوق الإنسان السابق، محمد زيان، الذي بلغ من العمر عتياً، لا هم، ولا حتى من ينددون اليوم بإلغاء امتحان المحاماة، وهم غير معنيين بالأمر حتى.
يجب أولاً النضال من أجل فرض استقلالية القضاء والمؤسسات التي توّفر الحرية والشروط الملائمة والقانونية للدراسة والعمل لتفادي هذا الشطط في استعمال السلطة اليوم، وفي حال حصوله، المطالبة بالمحاسبة، وليس الإعفاء من المهام، فلم تكن المحاسبة يوماً مرادفاً للإعفاء فقط.
امتحان المحاماة هذا هو تحصيل حاصل، هو تجلّ لمنظومة نخرها الفساد نخراً، ولجسدٍ هرم واهٍ، تغلغل الفساد بمختلف أشكاله، في أعضائه ونخاعه الشوكي.