المغرب.. اقتصاد "مُمَخزن" وشباب عاطل
إنّ التحكّم بمجتمعٍ ما يمرّ عبر السيطرة على موارده المالية والاقتصادية ونهب ثرواته لإبقائه طائعًا، صاغرًا، أمام النظام السياسي الحاكم. وهذا ما جعل طبيعة نظام الحكم عاملًا رئيسيًا، من العوامل المفسّرة لتقدّم الدولة الاقتصادي أو تأخرها، حاضرًا بالخصوص في نظريات الاقتصاد المؤسّساتي. فكلّما كانت الدولة تنموية، ترتكز على مقومات دولة الحق والقانون، وعلى حكم مؤسّسات شفّافة وشاملة للمجتمع؛ فتحت نوافذ للاستثمار وخلق فرص عمل لضمانِ التوزيع العادل والشامل للثروات والموارد. وكلّما زادت افتراسية الدولة، دَنَتْ من امتصاصِ ما وَفر عن إنتاجها لضروريات البقاء، لا العيش، عوضَ تحويلها إلى استثماراتٍ في تقدّم المجتمع.
في الاقتصاد المغربي، هذا ما يصطلح عليه بالمخزنة (نسبة إلى المخزن/ النظام المغربي) الاقتصادية. نظام اقتصادي يقوم على درجة القرب من المخزن ومدى متانة العلاقات التي تربط الفاعل الاقتصادي بهذا الجهاز. وهو نظام استخراجي ليس بالتنموي، بُني منذ القديم على جمع الجبايات والضرائب، لتمويل الجيش وتغطية مصاريف مهام الدولة السيادية من جهة، ومن جهةٍ أخرى، للتحكّم في القبائل وإبقائها خانعةً تحت رحمة السلطان بالاستحواذ على مواردها. وإذا كان المفضّل بن محمد غريط قد استعمل عبارة "رْيِّش الطير قبل لا يطير" (جرّد الطير من ريشه قبل أن يطير) ليفسّر بإيجاز النظام الجبائي لنظام حكم السلطان، فإنّ هذه السياسة ما زالت قائمة إلى اليوم، لكن بصيغة مُكيّفة ومُلائمة للزمن الحالي. إلا أنّ المغرب انتقل من دولة باتريمونيالية (Etat patrimonial) تقوم على نظام هيمنة تقليدي إلى دولة نيوباتريمونالية (Etat néo-patrimonial) تفترس داخل إطار مؤسساتي وقانوني منظّم. واجهة دولة حق وقانون ومؤسسات؛ بنظام اقتصادي ليبرالي، مشاريع ضخمة وشركات كبرى وسياسات عمومية؛ ونهج إسلامي يقوم على الإحسان أكثر من العدل. في باطنها جهاز يحتكر السلطة والمال، يبني نظامه الاقتصادي على نهب الثروات وإعادة توزيعها، وفقًا لمعايير القرب من دائرة النظام السياسي ودرجة رضا هذا النظام، في ضربٍ لأسس الليبرالية الاقتصادية وحتى السياسية. بالموازاة مع عملية تجريد المجتمع من موارده المالية والاقتصادية، تمّ تجريده من الصوتِ الذي ينطق به ضميره، إن كان لا يزال يميّز الحق عن الباطل والظلم عن العدل. هذا الصوت الذي ليس إلّا حقوق أفراد المجتمع السياسية وحرّياته المدنية التي تمّ تقييم مؤشراتها بحسب منظمة فريدوم هاوس، بمستوى بعيد عن المتوسط.
يشهد المواطن المغربي اليوم حالةً من الركود الاقتصادي والسياسي، اعتبرها بعض المراقبين للأوضاع في المغرب أسوأ فترة منذ بداية العهد الجديد، حيث تعاقبت ست سنوات عجاف من القحط والجفاف، وتدهورت القدرة الشرائية للأسر بارتفاعٍ كبيرٍ في نسب التضخم الاقتصادي، مع ارتفاع في معدلات البطالة. وبحسب استطلاعات رأي الموجة السابعة من البارومتر العربي، يرى 65% من المستجيبين المغاربة في سنة 2022 أنّ الوضع الاقتصادي للبلد سيئ، بل وسيئ للغاية.
بالموازاة مع عملية تجريد المجتمع من موارده المالية والاقتصادية، تمّ تجريده من الصوتِ الذي ينطق به ضميره
حكومة المغرب الحالية التي عُيّن على رأسها رجل الأعمال، عزيز أخنوش، من قبل صديقه الملك في سبتمبر/ أيلول 2021، بعد دوامه 14 عاما على رأس وزارة الفلاحة، والدوام لله؛ والتي لم تشرع بعد في خلق مناصب للشغل، هذه الحكومة تسبّبت في فقدان الاقتصاد المغربي 157.000 منصب خلال سنة واحدة، بحسب أرقام المندوبية السامية للتخطيط، مع ارتفاعٍ في معدّلِ البطالة، يمكن أن يصل إلى 15% على المدى القريب جدًّا، الشيء الذي جعل رئيس الحكومة يُهرول إلى مكاتبِ الاستشارة لاستيراد الحلول مثلما جرت العادة، وهو وزير للفلاحة.
لكن في الحقيقة، إنّ المشكل الذي تتجاهله الحكومة يكمن في انخفاض معدلات النشاط الاقتصادي، إضافة إلى التركيبة الهشّة، وغير المدمجة لسوق الشغل، إذ إنّ الساكنة النشيطة لا تشكّل سوى 43,6% مقارنة بـ 46,7% خلال سنة 2017، وحوالي النصف منها لا يحصل على أيّ مستوى دراسي، إضافة إلى أنّ حوالي النصف أيضًا من الساكنة العاملة لا يحوز أيّ شهادة دراسية. كيف لا، ونفس النسبة تَهجر الجامعة دون الحصول على أدنى شهادة. كما أنّ النساء لا يشغلن سوى 22,1% من مجمل الأفراد النشيطين، ومعروف بحسب دراسات وطنية ودولية أنّ سوق الشغل "ميسوجيني" (كاره للنساء) من جهة، ومستثنٍ للشباب من أخرى. النظام المغربي الذي أعاد لعب ورقته القديمة، ورقة تحيين مدونة الأسرة، خلق شيئًا من الإثارة والتشويق بفتحه نقاشًا "ديموقراطيًا" جدليًا ما بين النسويات المناضلات للمساواة في كلّ شيء، إلا المساواة في كسب الخبز! والإسلاميون الذين لم يقتنعوا بعد أنّ الاتجار في الدين يعادل اختلاس المال العام.
مثلما أنتج هذا النظام أفرادًا عاطلين بلا مستقبل ولا آفاق، صنع أفرادًا مُتخمين بالجشع
يتجلّى لنا أنّ رئيس الحكومة الذي عبّر مؤخرًا عن صدمته من معدّل البطالة المرتفع، ليس لديه وقت للاطلاع على تقارير المندوبية السامية للتخطيط، وتوفير أدنى الجهد للربط بين الأرقام التي تقدّمها. فأغلب الأفراد العاملين لا يميّزهم عن العاطلين سوى نعتُ العمل، إذ إنّ 70,7% منهم لا يوفّر لهم العمل تغطية صحية، وحوالي 71,7% ليسوا مسجلين بنظامِ تقاعد، بينما أكثر من النصف منهم لا يتوفّر على عقدِ عمل. إنّ مشكل النقص في توفير مناصب الشغل هو مشكل هيكلي يرجع إلى نظام الدولة النيوباتريمونيالي الذي ينهب أكثر مما يوزِّع. نظام ليس كفيلًا بأن يضمن اقتصادًا شاملًا مستديمًا، مرتكزًا على مؤسسات فعّالة تحفّز على الاستثمار، وإنما يبني لاقتصاد يُستعمل كأداة لتوزيع الامتيازات لاعتبارات ريعية وزبونية. وهذا ما جعل الأفراد يتحاشون سوق الشغل تفاديًا لتضييع الجهد، مؤمنين بالنتيجة قبل العمل.
تتوالى الحكومات والوزراء، لكن النظام ما زال قائمًا دائمًا، والدوام لله. فيسعى كلّ فرد من هذه الحكومات أن يزيد من ربحه ويعظّمه. فمثلما أنتج هذا النظام أفرادًا عاطلين بلا مستقبل ولا آفاق، صنع أفرادًا مُتخمين بالجشع.