معنى أن تتوقع الأسوأ
سعيد ناشيد
العلّة الأساسية في تفاقم مشاكل الناس وتفاقم المشاكل بين الناس أنّ الناس يتعاملون مع مشاكلهم من خلال تغليب الانفعالات على العقل، وبذلك النحو، عوض أن يحلّوا مشاكلهم فإنّهم يغذّونها من حيث لا يحتسبون.
حين يأذن لك العقل عند الضرورة بتوقع الأسوأ، فغايته هي أن تعمل على الحدّ من الاحتمالات السيئة ما أمكن، أو الحدّ من آثارها السلبية على أقل تقدير، إلّا أنّ الخوف الذي قد يثيره فيك توقُّع الأسوأ سرعان ما يفسد الخطة ويضيع الهدف. لا تنس أنّ الخوف يشتّت تركيزك، ويضعف قدرتك على اتخاذ القرار المناسب. لذلك طبيعي أن تأتي الكثير من قراراتك في حياتك اليومية على نحو خاطئ، بل كثيرًا ما يكون هروبك غير المحسوب من النتائج المخيفة هو ما يوقعك في تلك النتائج، مثلما حدث لأوديب حيث انتهى خوف الملك من تحقّق نبوءة الكاهن إلى تحقّقها بكلّ حبكة وحنكة.
القدرة على توقّع الأسوأ مهارة عقلية ضروريّة للحياة، إلا أنّ الخوف الذي يجلبه ذلك التوّقع قد يكون أشدّ سوءاً، حيث من شأنه أن يشل جميع مهارات العقل دفعة واحدة.
ذلك أنّ الخوف لا يأتي بمفرده، بل يجلب معه الغضب والكراهية والندم وسائر أشكال التوتّر، وهي حين تتكالب عليك تكفي لكي تشلّ عقلك وتُشتّت ذهنك وتلقي بك في جحيم الشقاء. بهذا النحو تخسر كثيرًا من معاركك، تخسرها بنفسك وتحت مسؤوليتك، وذلك بمعزل عن نظرية المؤامرة التي لا دور لها، إلا أنّها تعفيك من الإحساس بالمسؤولية وتبقيك نائمًا على فراش المظلومية.
الخوف الذي قد يثيره فيك توقُّع الأسوأ سرعان ما يفسد الخطة ويضيع الهدف
استعمال العقل ليس مجرّد ترف نخبوي كما يتصوّر أساتذة الفلسفة غير الموّجهة إلى الناس، وكما قد تظن بدورك.
كلّ مشاكلك اليومية في حياتك اليومية تتطلّب قدرًا من إِعمال العقل لأجل فهمها واستيعابها، وبالتالي حلّها، إلّا أنّ هيجانك الانفعالي غالبا ما يُفسد الخطة، ويضيّع الهدف، ويزيد مشاكلك تعقيدًا.
المسافة الانفعالية ضروريّة لإتقان الأعمال. مثلًا، يحسن بالطبيب الجرّاح ألّا يُجري أيّ نوع من العمليات الجراحية على أيّ أحد أعزائه، ويحسن بالقاضي ألّا يصدر أيّ حكم قضائي حين يتعلق الأمر بأحد أقاربه، ويحسن بالمعلّم ألّا يُعلّم أبناءه، طالما المطلوب في تلك الحالات كلّها هو الحفاظ على المسافة الانفعالية اللازمة لتحقيق العلاج، العدل، والتعلّم. بهذا النحو، نفهم كيف كان الفلاسفة في العصر الوسيط يعملون أساسًا في تلك المجالات الثلاثة، الطب، القضاء، والتعليم، بل كانوا يُختارون كأطباء لمعالجة الملوك، قضاة للحكم بين الناس، ومربين أو معلمين لولاة العهد.
محنة الآباء أنهم محرومون من تلك المسافة الانفعالية التي تتطلّبها التربية. لذلك فشل روسو مع أبنائه فيما نجح فيه مع أبناء البشرية جمعاء، كما فشل فرويد مع زوجته فيما نجح فيه مع سائر النساء والناس. المسافة الانفعالية هي شرط القدرة على حلّ المشاكل، ومساعدة الناس على حلّ مشاكلهم، كما أنّها شرط التفكير السليم في الاحتمالات السيئة.
المسافة الانفعالية هي شرط القدرة على حلّ المشاكل، ومساعدة الناس على حلّ مشاكلهم، كما أنّها شرط التفكير السليم في الاحتمالات السيئة
لذلك، على مدى آلاف القرون كانت القرى المحظوظة تفزر شخصًا قادرًا على وضع مسافة انفعالية مع كلّ المشاكل، بما يكفي لكي يسمّى حكيمًا، فيرجع إليه الناس قصد مساعدتهم على حلّ مشاكلهم، أو تعلّم حلّ المشاكل بينهم.
معظم مشاكلك أيّها الإنسان الضعيف تتفاقم ليس بسبب ضعفك الجسدي أو الاجتماعي كما قد تشكو أحيانا، بل بسبب انفعالاتك التي تضعف قدرتك على التركز على الهدف. والأدهى أنك عندما تنتبه بعد فوات الأوان تلقي باللائمة على أطراف تزعم أنّها هي من ساهم في ضعفك: والدي لم يترك لي إرثًا أعوّل عليه، دولتي لم تمنحني قرضًا استثمره، زوجي لم يكن غنيًا بما يكفي، إلخ. قد يكون ذلك كلّه صحيحًا أيها الإنسان الضعيف، لكنه لا يعفيك عن المسؤولية: مشاكلك هي معاركك، وسواء خضتها وخسرتها أم أنك لم تخضها فإنها معاركك أنت.
هل وضعت هدفًا مناسبًا لإمكانياتك وقدراتك، وحتى نزواتك إن وجدت؟
هل وضعت هدفًا يناسب طبيعة ضعفك، ونوعية نقاط ضعفك؟
هل حاولت أن تُحوِّل ضعفك إلى مصدر قوة كما ينبغي؟
قد تحتجّ عليّ بالقول: لكنهم لم يعلموني ذلك، لم أتعلّم شيئًا من ذلك سواء في الأسرة أو المدرسة. هنا لديك الحق، بل أكثر من ذلك، المعضلة أنّ ثقافتك عوض أن تمنحك شجاعة العيش، فقد ملأت قلبك بالخوف من الحياة، والتوّجس من كلّ ما يرمز إلى الحياة.
ذلك كلّه صحيح، لكنّه لا يعفيك من مسؤوليّتك طالما يبقى العقل أعدل الأشياء قسمة بين الناس، كلّ الناس. أنا أيضًا ابن هذه الثقافة، ولقد مررت بدوري من أقصى درجات الجبن والوهن في مواجهة مشاكل الحياة، مثل سائر الضعفاء، لكن خاصية الإنسان أنّه يستطيع أن يعلّم نفسه بنفسه.
بدوري حُرمت من كثير من المستحقات في هذه الحياة المليئة بالقسوة المجانية، لكن خياري كان على الدوام ألا أفقد تركيزي على الهدف، وكان لسان حالي دومًا يقول: الطعنة التي لا تقتلني لا ألتفت إليها.
مشاكلك هي معاركك، وسواء خضتها وخسرتها أم أنك لم تخضها فإنها معاركك أنت
إنّ الهدف الذي ينبغي أن يتمسّك به كلّ الضعفاء مثلي ومثلك هو مواصلة النمو في الاتجاه الذي يناسب طبيعة ضعفهم. لكلّ شخص نقاط ضعف عليه أن يعرفها وبالتالي يعترف بها، ومنها ينطلق في رحلة النمو، لكلّ مجتمع نقاط ضعف عليه أن يعرفها وبالتالي يعترف بها، ومنها ينطلق في رحلة النمو. عدا ذلك سيكون الأمر مجرّد موت موقوف التنفيذ.
يحتاج المقاتل إلى أن يكون في أعلى درجات التركيز معظم أوقاته، لا سيما أثناء اشتداد المواجهة، غير أنّ أكثر ما يزيد الضعفاء ضعفًا هو ضعف التركيز على الهدف، خصوصًا حين تشتدّ المواجهة. رغم ذلك، فإنّ تدارك الخلل في متناول كلّ واحد منّا حين يزيل من أنظاره أوهام الانتظار، وحين يقرّر أن يُعلم نفسه بنفسه.
مرِّن نفسك على التفكير في أسوأ الاحتمالات دون الوقوع في فخ الخوف، مرِّن نفسك على التفكير في الاحتمالات الأسوأ دون أن يسوء تفكيرك، مرِّن نفسك على وضع مسافة انفعالية مع الفكرة السيئة طالما المشاعر تتأثر بسرعة بنوعية الأفكار التي تتولّد في الذهن.
اِبدأ من المسائل الصغرى في بيتك ومن ثم يمكنك أن تتدرج.
اِبدأ مما تراه في المواقع الافتراضية كلّ يوم ومن ثم يمكنك أن تتدرج.
سبق أن أفلس رجل بسبب أخطاء في تسيير أمواله، بكى ساعة أو ساعتين، رفض جرعات الخمر التي قُدّمت له، فقد فضّل أن يواجه الموقف بشجاعة وعيون مفتوحة، ثم سرعان ما كفكفَ دموعه، وقال: قد خسرتُ كلّ أموالي، وبإمكاني استعادة جزء منها، ليس بالقلق، بل بالعمل. في الصباح استيقظ في الوقت نفسه، ارتدى الملابس نفسها، وذهب في رحلة البحث عن عمل.
حين تجعل هدفك هو ألّا تخسر كلّ شيء، فلن تخسر كلّ شيء حتى حين يكون عليك أن تخسر الكثير.
إذا وجدت نفسك تائهًا بمحفظة ظهر ثقيلة في صحراء شاسعة، وأمامك عدّة ساعات من المشي قبل النجاة، فستشرع في التخفّف من ثقل الحقيبة شيئًا فشيئًا، ولن تبقي في النهاية سوى على قنينة الماء. أمّا إذا أصررت على التمسّك بالحقيبة بكلّ محتوياتها، فستصبح نجاتك أكثر صعوبة.
حين تتوّقع غرق مركبك، فما عليك إلا أن تتخلّص من كلّ الأثقال الزائدة.