مثل نفسٍ أخير نبدّده في الهواء قبل أن نموت

14 يناير 2023
+ الخط -

الحب.. إنّه مثل الساعات الرملية، يتدفق باستمرار من جهة إلى أخرى، إلى أن ينفد تماماً في جهة، وتمتلئ به الجهة الأخرى بالكامل. حينها على الساعة أن تقلب من جديد. لكن للحقيقة بنيتها الأكثر تعقيداً مقارنة بالمجاز، فرمل الحب في الواقع دون زجاج، وغير خاضع لأيّ قانون أو ضبط، تعبث به الريح دون حدود، إلى أن ينفد ولا يعود بإمكان أحد جمعه، مثل نفسٍ أخيرٍ، نبدّده في الهواء قبل أن نموت.

بالنسبة إلى شاعر تكتظ روحه بالصور والمجازات والاستعارات قد يحرص على النص أكثر من حرصه على امرأة تعبر ذلك النص، فالمرأة تعبر في النهاية، بشكل عادي، منطقي للغاية، وواقعي، من جهة الساعة الرملية إلى جهتها الأخرى، أو من طرف صحراء إلى طرفها الآخر، دون أي عودة ممكنة أو حتى غير ممكنة، بينما يظلّ النص في يد الشاعر، يملكه، ويتحكّم فيه دون أن يملكَ النص الشاعرَ أو يتحكّم فيه.

قد تعبر أعماقك نساء كثيرات، تذهب كلّ واحدة منهن في النهاية إلى سبيلها، دون أي مثالية تذكر أو مبالغة لغوية في وصف الحب وأعراضه الجانبية وصموده الحديدي أمام الأزمات وخلوده المتخيّل. الحديد يصدأ بفعل الزمن ويتآكل، والصخور العتيدة تتفتت لتتحوّل إلى ذرات رمل صغيرة مهيضة الجناح. إنها حكمة الزمن القاسية والعتيدة والمحايدة، التي تعلّم الشاعر الصمت والتأمل والقبول بقسمة الفيزياء والكيمياء، كما هي دون تذمر كبير، شاعرية كما هي في الواقع، أكثر من شاعريتها في اللغة، وفي أوهامنا المتراكمة عبر التاريخ، ليس عن الحبّ فقط بل عن كلّ شيء تقريباً.

أن نقلّل من الأزهار، وأن نضيف بعض الأشواك وشظايا الزجاج، فهذا لمصلحة الحب، يثبته أكثر، ويعبّر عنه أبلغ، عكس ما قد يعتقد البعض

يعبر الحب فوق قلوبنا بخطوات كبيرة، وكلّ ما سيبقى في النهاية هو الأثر، وليس العبور. ذلك الأثر الذي لا يمكن أن يعني لشاعر سوى النص وسوى ذاكرته الخاصة. النص الذي سينبض بالحبّ ممسكاً به ليس من أجل تخليده ومنع تسربه ونفاده، بل فقط من أجل تحويله من فكرة شخصية للغاية بين رجل وامرأة إلى فكرة عامة عاشها وسيعيشها أغلب الناس في كلّ العصور. تلك الخفقة الوجلة للقلب التي تسكر الروح وتبعث الحياة والنشوة والأدرينالين في الجسد، خفقة بداية الحب غالباً، وليس أواسطه أو نهاياته. إنها علاقة متوازية غير متقاطعة بين نص عن امرأة وبين تلك المرأة ونساء عديدات يزدحمن في الذاكرة ابتداء بالأم. العلاقة بالمرأة تنتمي إلى الواقع، بمحدوديته وثقله، بشروطه وأعبائه، أما النص عن تلك المرأة أو عن سواها فينتمي إلى الخيال المجنح، إلى عالم اللغة، إلى مجرّة الشعر والأدب المستقلة العائمة فوقنا، بالتوازي بدقة شديدة دون أي إمكانية حقيقية للتقاطع، ودون أي إمكانية أبداً لانتقال شخص إلى نص أو نص إلى شخص.

يذهب الحب، أو يبهت، أو يموت، أو تذرُوه الرياح، أو يتأجج من جديد منبعثاً من رماده، أو يصير حبّاً آخر لامرأة أخرى، ومنها إلى امرأة أخرى، ثم إلى نساء كثيرات، أو لا شيء من كلّ هذا سوى حبّ للخيالات والصور الفاتنة الخادعة، أما النص فيظل كما هو في سيرته الأولى، مرتبطاً بحياة الشاعر، وبذاكرته، في طريقه إلى النضج والفناء، وبسعيه المتواصل إلى كتابة نصوص جميلة أكثر من سعيه إلى إنجاح ذلك الحبّ أو سواه، غير مرتبط بأي امرأة، حتى وإن حمل اسمها أو عطرها أو بريق أعماقها في عيونها.

إنه إخلاص للغة أكثر مما هو إخلاص لأيّ امرأة، إخلاص لذاكرة مستقلة ليس فقط عن تلك المرأة بل عن الشاعر نفسه. أمرٌ يُشعر أي امرأة بطبيعة الحال بنوعٍ من الانتقاص من قيمتها، الذي قد يصل في تصوّرها إلى الإهانة والخيانة والتقزّز، كما يدخلها أيضاً في نوع من الغيرة الفتاكة، ليس تجاه امرأة أخرى بل تجاه النص نفسه، الحر والمنفلت من أي سلطة أو احتواء أو تملّك، بما فيها سلطة الحب نفسه بكلّ نبله وجماله وبهائه. ذلك النبل الذي لا يعني لي في حقيقة الأمر سوى الواقع بكلّ واقعيته، بالأنياب والأظفار جنب الزهور، وبالجراح الرهيبة جنب القبل والعناقات والأحضان الدافئة، الفتور جنب الحماس الشديد، والملل جنب الاشتعال والاتقاد المتواصل، والخيانة جنب الوفاء. التأجّج إلى أقصى حد ثم الانطفاء ببطءٍ شديدٍ أو بسرعة شديدة إلى حدود الانمحاء والفناء الكامل والنفاد التام.

العلاقة بالمرأة تنتمي إلى الواقع، بمحدوديته وثقله، بشروطه وأعبائه، أما النص عن تلك المرأة أو عن سواها فينتمي إلى الخيال المجنح

نبل لا بد أن نعيد فيه النظر دائماً، خصوصا في الشعر، أن نقلّل من الأزهار، وأن نضيف بعض الأشواك وشظايا الزجاج، فهذا لمصلحة الحب، يثبته أكثر، ويعبر عنه أبلغ، عكس ما قد يعتقد البعض، بل الأكثر واقعية هو الأكثر أحقية بالحياة والأقدر على وصفها بهامش أخطاء أصغر. أثر الجرح الذي يتركه حذاء على قدم امرأة رقيقة، قنينة عطرها التي فرغت، طلاء أظفارها الذي تقشّر من كثرة العضّ العصبي، نظرتها الشرسة البراقة أثناء الغيرة، أفكارها الواضحة إلى حدّ الالتباس، أعماقها المتقلبة كطقس استوائي، رائحة عرقها الخفيفة بعد صف طويل من القهقهات بسبب نكتة، بكاؤها دون سبب كالأطفال المزعجين الذين يحاولون طيلة النهار جذب الانتباه إليهم دون معنى، شعرها المنفوش بعد النوم، الصندل مقلوباً في قدميها من السرير إلى الحمام ومن الحمام إلى السرير، بريق الشرّ في عينيها الجميلتين أثناء نميمة أو أثناء كذبها الأبيض والأسود أو أثناء حبكها المكائد والدسائس، وروائح جسدها الأخرى التي تألفها مع الوقت إلى أن تصبح بالنسبة إليك تقريباً كرائحتك. أجد هذه الأمور الصغيرة، وما على نحوها، بواقعيتها الشديدة، دون أيّ مبالغات، أكثر لذة وأبلغ في توصيف الحب وأكثر ملاءمة لنص يكتبه شاعر قادم من المدينة ومن عوادم السيارات وضجيج الباعة وقسوة أبنية البورصة والبنوك المصفحة التي لا تشجع البروليتاريين كثيراً على السرقة، أكثر من قدومه من المعاجم اللغوية ذات الأغلفة المذهبة والفصاحة واللعب المجازي والجناس والطباق والترخيم... إلخ.. إنه قدوم مباشر من مزابل أكثر وحشية وواقعية وجاذبية حين تنبت على حافاتها وردة وحيدة منفوشة، أو حين ينبشها طفل يتيم ووسيم بغمازتين في خدّه. 

ليس الحب فقط هو الذي يعبر، بل الحياة كلها تعبر، أما النص فيبقى، سواء كان نصاً كتبه رجل أو نصاً كتبته امرأة. لا يبقى إلى الأبد، بل يبقى طويلاً على الأقل، أطول من كلّ قصص الحب الفاشلة، ومن كلّ قصص الحب الناجحة. إنها أنانية ضرورية للحفاظ على النص، الذي ما هو في الحقيقة، واستثناء، إلا ذات الشاعر نفسها، وقد تحوّلت إلى كلمات، أو هي كلمات تحوّلت إلى ذاته، روحه، وحياته، التي لا يحدّها الواقع بشروطه ومعيقاته ومحدوديته، بل تحدّها مخيلته فقط، التي كلها من كلمات، كلمات فقط، هشّة وصغيرة وبسيطة، لكنها رغم ذلك غير قابلة للسحق حتى بالمجنزرات، ولا للقتل حتى بالرصاص الحي، ولا للذبول والتلاشي والنفاد حتى أمام أعتى الأزمات.

الحب واقعي جداً بهذا المعنى، وحقيقي جداً دون أيّ ادعاءات أو مبالغات، أو انتظارات متوّهمة، إنه كائن مستقل في حقيقته عن أيّ رجل أو امرأة، يدخل هنا ويخرج من هناك، من قصة إلى أخرى، ومن حياة إلى أخرى، ومن غواية إلى أخرى، يعيش فينا دون أن نعيش فيه، يمتلكنا إلى حين، دون أن نمتلكه لحظة واحدة، أو أن يثبت لنا شيئاً إثباتاً نهائياً، إنه هنا داخلنا حقاً أو حتى خارجنا. أما ما يملكه الشاعر، دون شك، فهو نصوصه، التي لا ترى الحبّ في امرأة واحدة فقط، ولا في امرأتين، ولا في كلّ نساء الأرض، بل في كلّ هذا العالم قاطبة، بخيره وشره، ببشره وحجره ونباتاته وحيواناته وأسماكه وأشباحه، حبّ لا تتسع له سوى اللغة والمجرات والموسيقى، موسيقى على الكونترباص مثلاً، ذلك الكمان الضخم الأجش، الذي يعبّر أكثر من أي نص في العالم، ليس فقط عمّا نريد قوله، بل حتى عمّا لا نريد قوله.

محمد بنميلود
محمد بنميلود
كاتب مغربي من مواليد الرباط المغرب 1977، مقيم حاليا في بلجيكا. يكتب الشعر والقصة والرواية والسيناريو. صدرت له رواية بعنوان، الحي الخطير، سنة 2017 عن دار الساقي اللبنانية في بيروت.