لماذا ننسى أسماءَ من نحبُّ؟
أنسى تقريبًا كلَّ شيءٍ. يومي أبيض وفارغ كثلاجةِ الفقراء. ذاكرتي أصبحتْ ضعيفة منذ دراستي بالثانوي حين أخذتُ جرعةً كبيرةً من المخدِّر خرّبت كثيرًا من خلايا دماغي العصبية التي لا تُعوّض بخلايا أخرى جديدة ولا قديمة، خرّبت قدرتي الطبيعية على التذكّر وقدرتي الطبيعية على النسيان.
منذ ذلك الزمن، وأنا أعتادُ على هذه الذاكرة المُضبّبة كما يعتادُ معطوب حربٍ على عكازة، يصير مع الوقت أسرع بقدمٍ واحدة.
أنسى الاتجاهات، الأماكن، والأسماء خصوصًا. ذات مّرة، ونحن نتمشّى، صديقي وأنا، نسيتُ اسمه وهو يحدّثني. إنّه صديقي منذ طفولتي. لم أعدْ قادرًا على سماع ما يقول، بل ركّزت كبوذيٍّ مُبتدئ فقط في تذكّر اسمه. خجلتُ أن أقاطعه لأسأله: ما اسمك؟ استغرق مني الأمر أكثر من خمس دقائق من التخمينِ الشديد المُتعب والشرود والاستغراب، لأتذكّر اسمه. كان اسمه: محسن. الآن أتذكره بسهولةٍ شديدة، دون مجهود، لكن، لا أعرف بالضبط متى سأنساه ثانية، ومتى سأتذكّره.
يحدثُ معي نفس الشيء بخصوصِ أشياء كثيرة، أتذكّرها حين لا أسعى إلى تذكّرها، وأنساها حين أكون بحاجةٍ ماسة إلى تذكّرها. هذا ما حصل لذاكرتي، عوضَ أن تشتغل بشكلٍ طبيعيٍ أصبحتْ تشتغلُ بكفاءةٍ ضدَّ الطبيعة.
النسيان بالنسبة إليّ أكثر غرابة من التذكّر، لا أستطيع شرح الأمر، لكن فقدان الأشياء يُحيّرني، فقدان ولاعة، مثلًا، أكثر إدهاشًا من إيجادِها في مكانها. تكون في مكانها ثم فجأة تختفي. تكون لديك سجائر ولا تجد الولاعة، هذا أسوأ من أن تكون لديك ولاعة وليست لديك سجائر.
عندما تنسى، لا تعرف ماذا يجب عليك أن تتذكّر، ورغم ذلك تعرف أنّه عليك أن تتذكر
أمّا فقدان فكرة فهذا هو السحر الأسود. الفكرة ليست شيئًا ملموسًا، ثم تفقدها، تفقدُ شيئًا غير ملموس، شيئًا شبحيًا بالكامل. تفكّر في نفسك في موضوعٍ يهمك، تناقشه بتحمّسٍ ولذّةٍ، تخطر في بالك فكرة عبقرية، حينها بالضبط يرن الهاتف، تُجيب، تستغرق المكالمة أقلّ من دقيقة، تضع الهاتف جانبًا، ثمّ تحاول أوتوماتيكيًا العودة إلى التفكير في الشيء الذي كنت تفكّر فيه قبل أن يرنَّ الهاتف، تعجز عن ذلك، كيف ستحلّ هذه المشكلة؟ عليك التذكّر.
يا له من عمل مُتعب أكثر حتى من الحفر، عمل يحتاجُ طاقةً رهيبة. لكن، تذكّر ماذا؟ من الأصل لو كنت تعرف ماذا لما احتجت إلى التذكّر. الغريب هو أنّك لا تعرف ماذا يجب عليك أن تتذكّر ورغم ذلك تعرف أنّه عليك أن تتذكّر. في الأخير تتذكّر الموضوع الذي كنتَ تناقشه، يُساعدك شيءٌ ما على التذكّر، مثلا قبل أن يرن الهاتف حين كنت تناقش ذلك الموضوع مع نفسك، كنت تلعب في يدك بولاعةٍ، وحين رنّ الهاتف وضعتَ الولاعة جانبًا دون أن تعي أنّك وضعتها. الآن وأنت تبحث عن خيطٍ يُوصلك إلى تذكّر ذلك الشيء الذي يُلّح عليك تذكّره دون أن تعرف ما هو، تُحرّك يدك عفويًا حولك، فتصطدم بالولاعة، وهنا مباشرة تتذكّر الموضوع، تلك الولاعة السحرية، بشكلها، وملمسها، ولونها، جزء من الخيط رغم أن لا علاقة لها بتاتًا بالموضوع، فالولاعة مادة بينما الفكرة خيال. لكن لولا الولاعة لما تذكّرت شيئًا. كان لا بدّ لك من شيءٍ حقيقي كولاعةٍ لتتذكر شيئًا وهميًا.
غير أنّ تذكّرك موضوعاً ما ليس سوى جزء من الخيط الذي تمزّق بحيث لن تصل بسهولةٍ إلى الفكرة العبقرية التي نسيتها. ستعصرُ دماغك كزيتونةٍ جافة دون أن تقطر منه قطرة زيتٍ واحدة. ثم، حين تتعب بالكامل دون جدوى، ستقول في نفسك: الآن حين سأنسى سأتذكّر، فالدماغ يعمل دائمًا بهذه الطريقة الآلية الناجعة، محاولًا حلّ المشاكل العالقة بمفرده.
حين سأنسى سأتذكّر. الدماغ يعمل دائمًا بهذه الطريقة الآلية الناجعة محاولًا حلّ المشاكل العالقة بمفرده
تنشغلُ بشيءٍ آخر، ممثلًا أنك نسيت، لكنك تنسى فعلًا، ولا تعود تتذكّر ما نسيت، تنسى فكرة أنّك تناسيت لتتذكّر، لكنك تشعر من جديد برغبةٍ ملحةٍ في تذكّر ماذا نسيت وماذا تناسيت، وهكذا إلى ما لا نهاية، رغم أنّك لست مصابًا بألزهايمر، وأنك تتذكر أشياء أخرى بوضوحِ شديد، ولا تنساها أبدًا، أشياء لا تحتاج في الغالب أن تتذكرها ولا أن تنساها.
يرن الهاتف من جديد، فتتذكر الفكرة العبقرية، لا تجيبُ على الهاتف كي لا تنسى الفكرة، بل تدعه يرن، تشكره لأنّه جعلك تتذكّر وأنت تضعه جانبًا بإحساسٍ كبير بالزهو والخلاص أنّك تذكّرت. تتأمّل الفكرة العبقرية، تقلبها يمينًا ويسارًا، تجد أنّها ليست عبقرية ولا أيّ شيء، بل تافهة للغاية ومضحكة لأنّها ليست عبقرية، ورغم ذلك، بدا لك قبل أن تنساها أنّها عبقرية، والآن حين تذكّرتها وجدتها تافهة.
تستنتج أنّ الأفكار ليست كالولاعات، حين تضيع ولاعة جميلة تجدها كما هي، جميلة لم يتغيّر فيها شيء. لكن حين تضيع منك فكرة عبقرية، تجدها وقد تحوّلت إلى فكرةٍ تافهة، رغم أنّها هي نفسها.
هناك خطأ ما في التحليل، لقد كانت تافهة منذ البداية، لكن عدم إيجاد وقت كاف لتحليلها هو ما جعلها تبدو عبقرية كما بدت لأوّل وهلة. عدم إيجاد وقتٍ كان بسبب النسيان وليس بسبب الوقت، النسيان حوّل فكرةً عبقرية إلى فكرةٍ تافهة، هذا مدهش.
النسيان حوّل فكرة عبقرية إلى فكرة تافهة، هذا مدهش
النسيانُ أحيانًا يقوم بالعكس، يحوّل فكرةً تافهة إلى فكرةٍ عبقرية، لكن هذا يحدثُ نادرًا جدًا، وربّما لا يحدث أبدًا، لأنّ لا أحد ينسى فكرةً تافهة، لأنّه لا يكلّف نفسه، أصلًا، عناء تذكرها، وإن نسيها فالدماغ لن يطالبه أبدًا بتذكّر فكرة تافهة، ولن يجهد نفسه أبدًا في تحويلها إلى فكرةٍ عبقرية، فذلك حتى في عالم الأفكار يشبه محاولة إشعال سيجارة من دون ولاعة، أو إشعال ولاعة من دون سيجارة، محاولة تذكر طعم حلوى أكلتها في الطفولة، أو محاولة نسيان مأساة رهيبة حلّت بعائلتك.
رغم ذلك، يحيّرني أكثر نسيان الأفكار التافهة، أكثر من نسيان الأفكار العبقرية. أحيانًا أحاول أن أتذكّر ما كنت أفكرُ فيه قبل ربع ساعة رغم أنّي أعرف أنّي لم أكن أفكر في شيءٍ ذي قيمة، أجهد نفسي لتذكّر تلك الأشياء التي بلا قيمة، لكن دون جدوى، إذ لا ينفع مع ذلك لمس ولاعة باليد، ولا رنين الهاتف، ولا حتى الاستعانة بالتعاويذ. أعرف حينها موقنًا أنّ نسيان شيء ذي قيمة أقلّ تعقيدًا بكثير من نسيانِ السخافات..
وأنا أعيدُ قراءة هذه السطور لتنقيحها، أحسست فعلًا أنّي بدأت بإجهادِ عقلي، كأنّي أمام رياضيات بلا أرقام. كأنّي أحاول أن أتذكّر شيئًا نسيته ولا أعرف ما هو، أحاول وأحاول ورغم ذلك لا أتذكر شيئًا..
هذا هو ما يحدث لي بالضبط، باستمرار، طيلة اليوم، عند محاولة تذكّر اسم كاتب، أو كتاب، أو اسم صديق، أو تذكّر اسم حبيبتي حتى.