يوماً ما سيبقى الصندوق فارغاً يا سارة

29 سبتمبر 2024
+ الخط -

إنها كائن حي، لها قلب وعينان وفم وسمع وإحساس وهذا كاف للعِشرة الطويلة، لتقاسم الأفراح والأتراح بالتساوي..

سألمسها بحذر إن ظلت جامدة مدة طويلة لا تتحرك، لأتأكد أنها لم تمت، بل هي تفعل ذلك بمكر فقط لتحصل على لمسة حانية مني. سأغير لها صندوق الوقيد بصندوق وقيد آخر نظيف، وأضع لها فيه كل صباح قطعة جبن لا بأس بها. 

سأقول لها كأنها ابنتي الصغيرة الجميلة التي تشبه دمية شقراء: كُلي.. كُلي.. كُلي الجبنة يا سارة.. كُليها كلها.. إنها جبنة من النوع الفاخر.. أنا نفسي لا آكل منها إلا في الأعياد.. تذوقيها أوّلاً ورُدّي عليَّ الخبر.. 

سأبقى مقرفصاً قبالتها على ركبتيّ أشجعها وأحثها على الأكل حتى أتأكد أنها أتت على قطعة الجبنة كلها، ولم تترك منها أي شيء للبق أو للبراغيث أو لكائنات أخرى أصغر قد تدخل من تحت الباب أو من الشقوق والثقوب الكثيرة لتعضّ وتهرب.. 

سأضعها بعد الظهر على حافة النافذة وأفتح لها الصندوق قليلاً لتتأمل السراب كما تشاء، ولن أزعجها حينها بأي شيء. بل سأقف أنا أيضاً قربها جامداً دون حركة لأتأمل مثلها السراب والفراغ اللّولبي الصامت الطويل باستمتاع..

وفي المساء، سأخرجها بهدوء من الصندوق وأضعها بحنو فوق كفي لأحكي لها قصصاً وحكايات خيالية طويلة أخترعها لأجلها، عن أبطال وهميّين يذهبون إلى المعركة بلا مخاوف، يهزمون الأعداء بضربة سيف واحدة، وينقذون الأميرة الجميلة في الأخير، وعن غابات مسحورةٍ الداخل إليها مفقود والخارج منها مولود، وعن أقزام وضباب يخرج منه سحرة في أيديهم الكنوز التي لم نجدها نحن في المنجم..

سأحكي لها كل شيء حتى ننام، ونحلم معاً أحلاماً جميلة. سأحلم أنا أني ما زلت أعمل في المنجم وأننا وجدنا ذهباً أكثر من الرمال، سنبيعه كله لمن يريد أن يشتريه، وستحلم هي بصندوق قمامة في المدينة بحجم جبل مليء بكل بقايا الطعام الأكثر لذة تتسلقه بسهولة وتغرق في عسله إلى الأبد.

سأخاطبها بحنو: أنت صرصارة مهذبة يا سارة.. كُلي الجبنة كلها لآخذك معي إلى حديقة الألعاب.. 

طبعاً سأكذب عليها فقط لتأكل، فلا توجد في الجوار أي حدائق.. 

هيا كُلي لتتغذي وتصيري صرصارة كبيرة عاقلة يغرم بها الصراصير الشبان الأكثر وسامة، يأتون إليّ لخطبتك مني، فأنا هو أبوك الحقيقي، أو فلنقل على الأقل إني مثل أبيك تماماً.. 

هيا كُلي وإلا غضبت منك وذهبت للتِّجوال طويلاً وحدي في الصحراء الفارغة وتركتك هنا وحدك دون أنيس ولا ونيس.. حسناً، قولي الصراحة، إذا كان هذا الاسم (سارة) لا يعجبك، سنغيره يا سيدتي في الحال.. فقط انطقي بالاسم الذي تحبين وسترين، لن يكون إلا ما تشائين..

أتعرفين يا سارة؟؟ أنت أجمل صرصارة في العالم، تأكلين الجبنة كلها، ولا تهربين لي من صندوق الوقيد حين أنساه مفتوحاً، وتسمعين قصصي وحكاياتي الطويلة المضجرة كلها حتى آخرها دون أن تنامي، أو أن تتركينني أكلم نفسي كمعتوه، ولا تفتعلين أية مشاكل.. 

بصراحة أنا وأنت نشكل عائلة سعيدة جداً لا ينقصها أي شيء.. إنني محظوظ لأني ربيتك أنت بالضبط، وليس صرصارة أخرى متشردة تهرب لي تحت الأثاث وحين أطفئ ضوء اللمبة تتسلل كلص إلى الفتات..

لكن أخبريني؟ هل أنت صرصارة متشددة أم ماذا؟! لقد أفرغت لك قليلاً من النبيذ في سدّادة القنينة.. هيا.. كوني شجاعة واشربيه، دعينا نسكر معاً في هذه الصحراء القاحلة ونرقص ونقهقه بسعادة حتى الصباح.. هيّا! ما بك؟! تذوقيه على الأقل!.. أتظنين أنه بالمجان؟! إنه أغلى حتى من زيت الزيتون يا معتوهة.. هيا اشربيه.. قلت لك اشربيه وإلا أغرقتك فيه واسترحت..

في الحقيقة أنت صرصارة لا تصلح للسمر.. تْفُووو عليك وعلى فصيلتك الصرصارية المنحطة وعلى هذه الصحراء..

أفكر بجدية أن أطردك من بيتي كمُطلّقة تطلّق في الليل والعاصفة.. 

لولا أني أحبك حقاً لركلتك بمقدمة حذائي، فأنت لا تفهمين شيئاً مما أحكيه لك عن السحرة والأقزام.. كل ما تفهمينه هو الطعام، والدخول في الشقوق الغامضة.. لا تعرفين تاريخاً ولا جغرافيا.. لم تذهبي في حياتك إلى مدرسة ولا إلى منجم للعمل تحت المراقبة بالبنادق.. لا تغيرين ثيابك القشرية المقززة هذه، ولا تحلمين في الليل سوى بالمواسير في كل مكان.. لم تشاركي أبداً كجندية في حرب مفاجئة، ولا حتى كممرضة، ولم تموتي أبداً في سبيل شعبك بل فقط في سبيل الطعام.. 

أصلاً أنت لا تعرفين حتى إننا في صحراء.. لا تعرفين أن العالم كبير جداً.. أكبر من صندوق الوقيد هذا.. أكبر حتى من صندوق العجائب.. وأكبر من الصحراء ومن السماء ومن السبعة بحار..

العالم أكبر من كل شيء يا سارة.. 

وهو جميل جداً ودافئ ومؤلم.. 

والذين يذهبون لا يرجعون أبداً.. 

وأنت أيضاً ستذهبين ذات يوم..

ستقولين لي ذات صباح جميل حين أجيئك بالجبنة، ستقولين لي دون مقدمات: اسمع أيها العجوز الخرِف، لقد ضقت ذرعاً بسخافاتك، لا أريد جبنتك المتعفنة. افتح هذا الصندوق اللعين واتركني وشأني، أريد أن أرى هذا العالم الكبير الذي تتحدث عنه بنفسي، وأصلاً أنت لست أبي الحقيقي هل فهمت؟؟..

يوماً ما سيبقى الصندوق فارغاً يا سارة، أعرف ذلك، قبل حتى أن أجدك في ركن ما من أركان هذا البيت لأربيك في صندوق الوقيد هذا.. 

لكن، لا بأس يا سارة.. حتى لو حدث ذلك، لا بأس.. 

سأجد حينها أحداً ليسمع قصصي وحكاياتي.. حتى لو كان ذلك الأحد مجرد قطعة فتات صامتة لن تفتعل المشاكل لي ولا لها، ولتذهبي أنت وكل صراصير هذا العالم إلى الجحيم..

محمد بنميلود
محمد بنميلود
كاتب مغربي من مواليد الرباط المغرب 1977، مقيم حاليا في بلجيكا. يكتب الشعر والقصة والرواية والسيناريو. صدرت له رواية بعنوان، الحي الخطير، سنة 2017 عن دار الساقي اللبنانية في بيروت.