موتُ الحاج ولا مبالاة القط
نهضَ الحاج علي بتثاقل، وجرجرَ بلغته (نعله) عبر الردهةِ حتى بلغَ الباب أو كاد، وجلسَ عند القرقارة (الماسورة) ومقراج (غلاي) النحاس في يده، وبدأ بالوضوء. وحين بلغ مسح رأسه الحليق بالماء لم يخلع رزته (عمامته)، بل أدخل يديه تحت الرزة دافعًا بها إلى أعلى ومسحَ على رأسه تحتها من دون أن يسقطها.
وفي هذه اللحظة، قفز القط مسعود من فوق طارو (برميل) الصباغة الفارغ إلى سورِ الباحة القصير المُغطّى بأكمله باللواية (اللبلاب)، وكمنَ هناك مترقبًا عصفور دوريٍّ قد يقوده تهوّره إلى السور، ويقوده قدره إلى بطنه، ومراقبًا في الوقت نفسه الحاج علي وهو يعود أدراجه إلى داخل البيت، وماء الوضوء يقطّر من ساعديه المكمّمين، فيما قدماه مبتلتان داخل البلغة الصفراء العتيقة كأنّه عاد لتوّه من عاصفة، كاشفًا عن ربلتي ساقيه الهزيلتين تحت سرواله الرمادي الشبيه ببطن الكنغر.
تجهّز الحاج علي للخروج قاصدًا الجامع وغفى القط فوق السور في غياب أيّة عصافير، إلى درجة أنّ مرور الحاج علي لم يثر فضوله حتى. وحين مدّ الحاج يده إلى الباب ليفتحه، شعر بدوخةٍ شديدةٍ وبنبضاتِ قلبه تتسارع إلى حدٍّ غير معقول، وبعرقٍ باردٍ وخفيف، سرعان ما غلّف جبينه وأعماقه. لم يشعرْ بعد ذلك بأيّ شيءٍ، فقد أُغمي عليه ساقطًا عند الباب من دون أيّة حركة، أو نفس، أو حياة، بعد دقيقةِ احتضارٍ صامتِ أو دقيقتين، لا أكثر ولا أقلّ.
لقد مات الحاج علي. كما يموتُ جميع العجزة تقريبًا، من دون ضجة كبيرة. وفي جنازته سيقولون: إنّه لأمر عجيب، بالأمس فقط رأيته في الجامع، صلّى معنا الظهر جماعة، وسألته عن الصحة، فقال: لقد تحسّن الحال كثيرًا.
عاد القط شبعانًا، متعبًا، كسولًا عند أذان الفجر الحاني الرخيم، فيما ظلّ الحاج علي ممددًا من دون حراك
في هذه الأثناء، ظلّ القط مسعود نائمًا فوق السور، لم يفعل شيئًا سوى أنّه فتح عينًا واحدة فقط حين زفر الحاج علي آخر زفرة، تلك الزفرة التي يقولون إنّها بوابة خروج الروح من أعماقِ الإنسان إلى عالمها. فتح عينًا واحدة ثمّ سرعان ما أغمضها بعد أن عمّ السكون والهدوء ثانية، عائدًا إلى نومه الهنيء وسط وريقات اللواية الغضّة التي طالما سقاها الحاج علي بماءِ وضوئه عن قصدٍ، وعن غير قصد.
جاء العصر، ثم غالب الظلّ الضوء فغلبه، فجاء المغرب وتبعه العشاء، وما زال الحاج علي ممدّدًا عند الباب، فيما القط مسعود استيقظ وقفز بخفّةٍ عن السور، ودخل إلى البيتِ ثمّ خرج، ثم دخل من جديد وتمدّد قليلًا فوق هيدورة (سجادة مصنوعة من جلد وصوف الكبش) الصلاة، ثمّ همّ بالخروج من جديد ناظرًا إلى السماء الخالية من أيّة عصافير، وقد اقترب من الحاج علي حتى كاد أنفه يلمس جلبابه، ثم حكّ ظهره قليلًا على ركبته رافعًا ذيله. وبعد ذلك، جلس قبالته ونظّف قائمتيه الأماميتين بلسانه، ثم نظّف وجهه، ثم أخذ يلعق فراءه في كلّ الأماكن التي استطاع لسانه وقائمتاه الوصول إليها، وقد استغرق ذلك عشر دقائق تقريبًا. ثمّ قصد السور دون أن ينظر هذه المرّة إلى الحاج علي حتى، قفز برشاقةٍ شديدةٍ إلى طارو الصباغة، ثم إلى أعلى السور، ثم تمشّى قليلًا فوق السور بخُيلاء شديد كاستعراض العساكر السنوي، ثم قفز من هناك إلى السطح، ثم إلى سطحٍ آخر، ثم إلى آخر، ثم إلى الخارج بعد أن فرغ الزقاق من الأطفال والمارة، ثم قصد محلّ جزارةٍ مُغلق في تلك الساعة، باحثًا عن لحمٍ أو ما شابه، إلا أنّه لم يجد سوى الرائحة، فقصد المزبلة القريبة، متثاقلًا في مشيته، مزهوًا بفرائه النظيف.
ليّل الليل وفرغتْ الأزقة والشوارع وظلّ الحاج علي هناك على حاله تلك، دون أن تسقط رزته عن رأسه، وظلّ الصنبور يقطّر في الداخل، من دون أيّ شمعةٍ تُضيء، وعاد القط شبعانًا، متعبًا، كسولًا عند أذان الفجر الحاني الرخيم، لينامَ كعادته فوق هيدورة الصلاة.