مركبة ما تلوح في الأفق

22 يونيو 2024
+ الخط -

بين الطابقِ الثاني والسطح، سبع عشرة درجة، تمنيتُ دائمًا لو أنّها ثماني عشرة. أُمنياتي بسيطةٌ دائمًا كهذه الأمنية، وطموحاتي لا تتجاوز أن يدخلَ النهار كاملًا، وكلّ يومٍ، من النافذة إلى غرفتي حين أفتحها له. أحيانًا أفتحها ولا يدخل، أضطر أن أبسبسَ له، وأقذفَ له بعض فتاتِ البسكويت فوق الأرضية ليدخلَ أخيرًا وهو يتبخترُ مزهوًّا بأشعته كقطٍّ أليف.

يُمكنني القول إنّي أربّي ضوءَ النهار منذ سنواتٍ طويلة، أطعمه من طعامي، وأمسّد فروته بيديّ حين لا تكون منشغلةً بكتابةِ القصائد، إلى درجة أنّه أصبح الآن عملاقًا. حين يُغضبني لا أفتح له النافذة، أتركها مغلقةً لأسابيع. أعيشُ حياتي هنا منذ سنواتٍ طويلة كمتقاعدٍ من دون معاش، ومن دون بلاد، ومن دون ذكرياتٍ حزينة. أدخنُ قليلًا من التبغ في الغليون بأبهة كلّ ساعتين، أجلس على كرسيٍّ هزّازٍ مرتديًا الشورت فقط. أُغمض عينيّ مبتسمًا كمن سيتلقى هديّة، ثم أبدأ بتخيّل ما أريد. أتخيّل ملعبًا كبيرًا تُحيطه حلبةُ سباقٍ ومدرّجاتٌ عملاقة فارغة، أحزمُ خيطي حذائي الرياضي وأركضُ مُسابقًا ظلّي على الحلبة، متريّضًا حتى التعرّق في خيالي. أنهضُ وأستحمُّ مغنيًّا في الحمّام بسعادةٍ. 

على الشاعر أنّ يظل سعيدًا في كلِّ الظروف، وأن يرقصَ جيّدًا إذا باغتته موسيقى. بعد الغداء أضطجع على سريري لأتخيّل. يستغرقُ ذلك ساعة كاملة، أتخيّل أنّي أراهن بكلِّ ما أملك من مالٍ على سباقِ كلابٍ سلوقية وأربحُ الرهان. حزمات كبيرة من المال، أتصدّق بها كلّ مرّةٍ على من أريد. البارحة تصدّقت بها على عصابةٍ شهيرة تتكوّن من خمسةِ لصوصٍ عجزة، أُفرج عنهم من السجن مؤخرًا، واعتُقلوا منذ سنِّ المراهقة. دُهشوا كيف لم أحتفظْ ببعض المال لنفسي، لا يعرفون أنّي أستطيع تخيّل آلاف من رهاناتِ سباقاتِ الكلاب كلّ يوم وربح جميع الرهانات، لذلك لم أعدْ مُحتاجًا إلى المال. 

طموحاتي لا تتجاوز أن يدخلَ النهار كاملًا، وكلّ يومٍ، من النافذة إلى غرفتي حين أفتحها له

 

أحتاجُ إلى بعض الهدوء والسكينة فقط، وأن يحترمَ ضوءُ النهار عاداتي، وأن تفهمَ الشمسُ أنّ مملكتها، وشروقها وغروبها، لا تنسحب على بيتي، إذ قد أمنعها من دخول هذا المكان متى أردتُ ذلك. لا يعني ذلك أنّي لا أحترمُ الشمس، سوى أنّي أرفض هذا النوع من اقتحام الخصوصيّة، أن تقتحم عليّ غرفتي حين أكون عاريًا، أو أن أخرج أنا لأتنزّه حين تكون هي عارية. لذلك لا أخرج أبدًا من البيت لأيّ سببٍ كان إلا حين يجنّ الليل. على الأقل لا يمكنك رؤية شيء من عورةِ الليل، سواء ارتدى ثيابه أم ظلّ عاريًا. 

سنوات أطول من سككِ القطاراتِ عشتها هكذا، جارًا لطيفًا للكائنات والعناصر، للحيواناتِ والحشراتِ والنباتاتِ والأسماك والطيور، أمّا البشر فلا بشر هنا أبدًا بعد تعرّض هذا الكوكب الذي أعيش فيه لوباء، مات أغلب الناس، والبقية صنعوا مركبةً فضائية عملاقة وهاجروا عبرها، كان من المفروض أن أهاجر معهم، لكنّي تأخرت. انتظروني ساعة كاملة حتى ظنّوا أنّ الوباء أخذني أنا أيضًا. انطلقتِ المركبة في الفضاء بسرعةٍ خيالية في اللحظة نفسها التي وصلت فيها وفي يدي رزمة ثيابي، ركضتُ نحوها صارخًا وملوّحًا بحذائي في يدي، اختفت في لمح البصر وظلّ حذائي وحده يُلوّح للسحاب. عدت مطأطئًا رأسي، ماذا أفعل وحدي في كوكبٍ دمره الوباء؟ 

لكن، سرعان ما عادتِ الحياة إلى كلِّ شيءٍ بعد مطرٍ غزيرٍ دام أسبوعًا كاملًا، جرف الوباءَ والجثثَ والدمار إلى المحيطات. اخضرّت الأشجار من جديد. تكاثرت الكائنات وغرّد الطير. 

أعيشُ حياتي كمتقاعدٍ من دون معاش، ومن دون بلاد، ومن دون ذكرياتٍ حزينة

إنّي محظوظ لأنّي نجوتُ من الوباء، ونجوتُ من هجرةٍ جماعية يائسة في الفضاء. لم يعدْ أحد منهم مذ هاجروا، ولا أعتقد أنّ أحدًا منهم سيعود. أحيانًا حين يكون النهار غائمًا بحيث يظهر ضوء الشمس مضبّبًا من دون أن تظهر هي، أقصد هضبةً هناك تُطلّ على الوادي، أجلسُ مُراقبًا الفضاء ساعات، علّ مركبة ما تلوحُ في الأفق. أخيرًا، أرى شيئًا، أقف متحمّسًا لألوّحَ لهم بيديّ. يقتربُ الشيء أكثر، أجد أنّه مجرّد لقلق. أضحك كمن يبكي، ثم تتحوّل ضحكاتي الغريبة إلى قهقهاتٍ هستيرية، ثم أبدأ بالتمرّغ على الأرضِ وأنا أضحك مُشيرًا بسبّابتي في اتجاه اللقلق، صارخًا: لقلااااق.. لقلاااااق.. إنّه مجرّد لقلاااااق.. 

في طريقِ عودتي إلى البيتِ أحدّث نفسي: حسنًا لا شك أنّ وصولَ لقلقٍ مهاجر إلى هذه الأرض أفضل بكثير من وصول مركبةٍ فضائيةٍ إليها. بعد العشاء أضطجع على سريري لأتخيّل ساعة قبل النوم. أتخيّل أعراسًا، أتخيّل حفلات غاصّة بالبشر، أتخيّل مرورَ مروحيّةٍ فوق البيت ترتعشُ لها الجدران، أتخيّل جيرانًا، أتخيّل أصدقاء، أتخيّل عيدًا وطنيًّا والجماهير تملأ الشوارعَ بالهُتافِ واللافتاتِ المزركشة والبالونات، أتخيّل شاطئًا والناسُ يسبحون ويلحسون الآيس كريم جالسين كسلطعونات على الصخور، أتخيّل  بيدرًا عملاقًا من التبنِ على شكل كوخٍ تشبّ فيه النار فجأة بشكلٍ بهيج، بينما يركض القرويون من كلِّ حدبٍ وصوبٍ نحوها بأيدٍ مليئةٍ بالغيوم ليطفئوها، أتخيّل أشياء كثيرة لم تعدْ موجودة على هذا الكوكب، وحين أتعب أتخيّل من جديد رهانات سباقات الكلاب، ثمّ أتخيّل فقراء ولصوصًا عجزة تائبين أتصدّق عليهم بالأرباح.

أحيانًا أستيقظُ من النوم، أصعدُ الدرجات السبع عشرة، أضيف درجةً خيالية، أعتلي السطح، أقضي ليلتي كاملة في تأمّل نجوم السماء كفلكيّ، منتظرًا قدوم أيّ شيء من الفضاء، أيّ شيء، نيزكًا كان، أم شهابًا، أم ملاكًا، أم شيطانًا، أم مركبة.. أخيرًا يظهر شيء، يقترب أكثر ويتضح، إنّه بومة.

محمد بنميلود
محمد بنميلود
كاتب مغربي من مواليد الرباط المغرب 1977، مقيم حاليا في بلجيكا. يكتب الشعر والقصة والرواية والسيناريو. صدرت له رواية بعنوان، الحي الخطير، سنة 2017 عن دار الساقي اللبنانية في بيروت.