لماذا لا نحبّ الطابور؟
سعيد ناشيد
تتوفّر قاعات الترانزيت في مختلف مطارات العالم على وسائل متنوعة لكسر الملل، من مقاعد للاسترخاء الجسدي، كراسي للتدليك الكهربائي، مقاصف للأكل والشّرب، أكشاك للجرائد والمجلات والكتب، موسيقى للاسترخاء الذهني، شبكة الواي فاي للتواصل والإبحار في العوالم الافتراضية، وبالطبع مراكز للتسوّق، طالما أنّ هناك بين التسوّق والملل علاقة سرّية يدركها خبراء التسويق جيدًا، وهذا مقام آخر للقول، فضلاً عن عروض استثنائية أحياناً، من غرف للنوم والاستحمام إلى قاعات للسينما، مراكز للعناية بالشعر أو البشرة أو الأسنان... وثمّة عروض مبدعة أحياناً أخرى، من حدائق للأزهار أو الفراشات النادرة، قاعات لليوغا، متاحف للثقافات المحلية أو الصور القديمة، وذلك كله لغاية مساعدة المسافرين على تحمّل ساعات الانتظار.
رغم ذلك، ما إن يقترب موعد فتح البوابة حتى يسارع الجميع ليكون الأول في الطابور الذي سيكون طويلاً على أيّ حال، ويبقى السؤال، ما الذي سيربحه الأوائل في الطابور طالما الخدمة نفسها، الرحلة نفسها، الطائرة نفسها، المقعد نفسه، ولا أحد سيسبق أحدًا في النهاية؟
المكسب الوحيد هنا هو التقليص من زمن الوقوف في الطابور. وبالمختصر المفيد، فإننا لا نحبّ الوقوف في الطابور.
إن كان الطابور يمثل مظهرًا للرقي والتحضر، إلى درجة أنّ وزير الدفاع الإسرائيلي الأسبق موشيه ديان قد قال لن أخاف من العرب طالما لا يحترمون الطابور، أو هكذا قيل! إلّا أنّ احترام الطابور يحتاج فعلًا إلى جهد في ضبط النفس، وتعويدها على تحمّل انتظار يُقيّد حركة الجسد. فالواقف في الطابور لا يتحرّك إلّا في اتجاه واحد، وبإيقاع لا يتحكّم فيه، إذا حاد عنه فقد يخسر مرتبته ويعاقَب بتمديد فترة الحجز في الطابور. الطابور سجن مؤقت يتنازل فيه الإنسان عن كثير من ذاتيته، ليدنو من حالة الأشياء الخاضعة للتسلسل الآلي. من هنا ذلك الشعور الذي يكتنف الواقف في الطابور بأنه واقع تحت مهانة التشيؤ. طبيعي إذن أن يسعى الإنسان إلى عدم إطالة الوقوف في الطابور، حتى ولو كان الطابور يقود إلى قاعة انتظار أخرى، قد يستغرق فيها الانتظار زمناً أطول.
أن يقتنع الناس بالوقوف في الطابور فهو تمرين شاق في ضبط النفس، لكنه الحل العادل حين يطلب الناس الخدمة نفسها في الوقت نفسه، فتكون المعادلة هي، من يأتي أولًا يستفد أولًا. ليس مصادفة أن تعود نشأة الطابور إلى حقبة الثورة الفرنسية، وذلك حين بدأ الفرنسيون في استعمال كلمة الذيل la queue لتنظيم صفوف الحشود المتجمعة أمام المخابز أيام المجاعة، وباعتبار ذلك تمرينًا شعبيًا لترسيخ مبدأ المساواة. غير أنّ الطابور بقدر ما يرمز إلى المساواة بين الناس، فإنه يرمز إلى امتثال الناس للسلطة، كما الأمر في الاستعراض العسكري. والحال أنّ مبدأ المساواة نفسه، في السياق الغربي، له طبيعة مزدوجة، فقد رسخ من جهة أولى، أنظمة الحرية تبعًا لقاعدة أنّ جميع الناس متساوون في الإرادة، لكنه برّر من جهة ثانية، صعود الأنظمة الشمولية تبعًا لقاعدة أنّ جميع الناس لديهم الإرادة نفسها.
بقدر ما يرمز الطابور إلى المساواة بين الناس، فإنه يرمز إلى امتثال الناس للسلطة
يُقال عن الإسبان إنهم لم يتعلموا الوقوف في الطوابير إلّا تحت سياط شرطة الديكتاتور فرانكو، وليس الحال كذلك. فرغم أنّ السياط كانت تنهال على الإسبان لكي يتعلموا الوقوف في الطوابير باعتبارها ترمز إلى السلطة، غير أنّ السياط لا تُكسب المرء غير الرغبة المكبوحة في التمرّد. فإنّ الفعل لا يكون أخلاقيًا كما يعلمنا الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط، إلّا حين يصدر عن الضمير الأخلاقي الحر للإنسان الحر. ذلك أنّ الالتزام الأخلاقي مع الغير هو التزام أخلاقي مع الذات أوّلًا. وهذا مما لا تصنعه السياط بأي حال.
غير أنّ الوقوف في الطابور ليس مجرّد التزام أخلاقي، بل مهارة يمكن تطويرها مثل سائر مهارات الحياة. فكيف ذلك؟
لا يكفي تعلّم الوقوف في الطابور، بل ينبغي تعلّم كيفية الوقوف، بمعنى الوقوف الذي يحفظ الصحة الجسدية والروحية. ويمكن اختزال الأمر في ثلاثة مبادئ:
أوّلًا، باعتبار تجربة الوقوف في الطابور مؤلمة، يحسُن التعامل معها مثلما يكون التعامل مع تجربة الألم، بحيث ينبغي اجتناب فخ التركيز الذهني.
ثانيًا، في حال وجود أكثر من طابور واحد، ينبغي تفادي المقارنة التي تثير اعتقادًا خاطئًا في الغالب بأنّ الطابور الآخر أسرع، ما يؤجّج مشاعر التذمر والسخط والحسد، والتي تستنزف طاقة الإنسان.
ثالثًا، هناك قواعد صحية للوقوف، والمشي البطيء، توّفرها بعض المواقع المتخصّصة، تضبط وضعية القدمين والركبتين والظهر والكتفين بنحو يجعل تجربة الوقوف في الطابور أقل إنهاكًا للجسد. وهذا لعله مقام آخر.