كسل وقت الظهيرة
سعيد ناشيد
ساعة الظهيرة هي ساعة الأشباح لدى معظم القبائل البدائية، حسب ملاحظة كثير من الدارسين الأنثروبولوجيين، لكنها أيضاً ساعة الشيطان في موروث الديانات الإبراهيمية الكبرى. ذلك أنّ عبارة "شيطان الظهيرة" التي يتكرّر ذكرها في "الكتاب المقدس" مرّات عديدة، وإن اختلفت تأويلاتها بين بعض الشارحين والمفسّرين، إلا أنها غالباً ما تُحيل إلى مَللِ وكسلِ وقت الظهيرة، ذلك المَلل الذي طالما اشتكى منه رهبان البراري والصحاري وفق تجاربهم الخاصة، وذلك تبعاً لكثير من المرويات المسيحية. كذلك فإنّ الموروث الإسلامي لا يخلو من ملاحظة مماثلة، حيث يتضمّن بدوره حديثاً منسوباً إلى رسول الإسلام حول علاقة الشياطين بوقت الظهيرة، في قوله: "قيلوا فإنّ الشياطين لا تقيل".
هكذا، يبدو كما لو أنّ الإنسانية جمعاء لديها مشكلة مستعصية مع وقت الظهيرة، لعلّها تضرب بجذورها في أعماق اللاوعي الجمعي، وفي ثنايا الذاكرة الوراثية.
فسواء تعلّق الأمر بإنسان العصور البدائية، وبالتالي عصر الكهوف والمغارات، أو تعلّق الأمر بتراث الديانات التوحيدية، وبالتالي إنسان العصر الوسيط، أو تعلّق الأمر بالعصر الحديث، وبالتالي إنسان حضارة المدن الصناعية الحديثة، فالحاصل أنّ الإنسان يبدو كما لو أنّه مبرمج على الخمول في ساعة الظهيرة.
والحال أنّ معظم المبدعين في مختلف مجالات الإبداع، يدركون فعلاً أنّ وقت الظهيرة ليس الوقت المناسب للإبداع. فمع الهبوط العمودي لأشعة الشمس، تخفت الطاقة الإبداعية للعقل والجسد. وهي التجربة التي يدركها معظم الناس بخبراتهم اليومية. بل حتى القدرات الإنتاجية تُصاب بالوهن وفق شكاوى كثير من المؤسسات الإنتاجية، التي تؤكد في دراسات ميدانية انخفاض المردودية الإنتاجية خلال أوقات الظهيرة، ما دفع كثيراً من المديرين إلى محاولة إجراء تعديلات مبتكرة لغاية التخفيف من ثقلِ وطأة الظهيرة.
تبدو معضلة انخفاض الإنتاجية في وقت الظهيرة كما لو أنّها معضلة مزمنة بالنسبة إلى معظم المؤسسات الإنتاجية، كما لو أنّها تفتقر إلى حلّ إنتاجي، وهو ما دفع الصين على سبيل المثال إلى دسترة حق العمال في التوافر على فسحات للقيلولة بوسائل مرنة.
رغم أنّ نمط الحياة تغيّر، إلا أنّ مشكلة الإنسان أنه لا ينسى بسرعة، لا ينسى بسهولة، وعلى الأرجح، فإنه لا ينسى أبداً
المعضلة أنّ الدماغ البشري يصرّ في كلّ الأحوال على التعامل مع وقت الظهيرة باعتباره وقت خفض طاقة الجسم والعقل، وبالتالي ينتابه الملل والكسل في تلك الفترة.
هل من تفسير لملل الظهيرة؟
هناك فرضية منطقية نبسُطها على النحو الآتي:
بالعودة إلى أسلوب حياة البشرية جمعاء طوال ملايين السنين من حياة الكهوف، إضافة إلى المجتمعات الزراعية الأولى، يمكننا أن نستخلص كيفية ضبط إيقاع الساعة البيولوجية لأوقات العمل والراحة على نحو متناسب مع موقع الشمس في السماء، بحيث تعوّد الجسد إمضاء معظم ساعات الصباح منذ طلوع الشمس في أعمال الصيد والرعي والزراعة، لكن مع الهبوط العمودي لأشعة الشمس، حين تقلّ الظلال، وتكون الأشعة فوق البنفسجية في أعلى مستوياتها، يصبح الوقت مناسباً للانسحاب نحو مناطق الظل (الكهف، الخيمة، الشجرة، إلخ)، لأجل الطعام والاسترخاء.
اليوم تغيّرت الأحوال بنحو جذري، وأصبح إنسان المُدن الحديثة يتنقل معظم الوقت تحت سقوف البنايات والمؤسسات والأسواق والمحطات، وتحت سقوف الحافلات والسيارات والطائرات، أصبحت الإدارات والمكاتب ومراكز التسوّق ومحطات السيارات، مجهزة بما يكفي لكي تصبح مشكلة الظهيرة جزءاً من الماضي البشري البائد، غير أنّ المعضلة كلّها أنّ الدماغ البشري غير مبرمج لكي ينسى بسرعة. فلا يزال الاسترخاء في مناطق الظل حين تكون أشعة الشمس في الخارج عمودية، يمثّل نوعاً من الجزاء الذي ينتظره الدماغ البشري عقب يوم مليء بالكدح والحذر.
لقد دأب الإنسان على العيش بذلك النحو طوال مئات الآلاف من السنين، يكدح من أجل البقاء، من شروق الشمس إلى ارتفاعها العمودي، ثم يختبئ من الأشعة فوق البنفسجية مستلقياً لبعض الوقت بعد أن يأخذ وجبته الأساسية كجزاء. مثله في ذلك مثل مئات الأنواع الحيوانية.
اليوم، رغم أنّ نمط الحياة تغيّر، إلا أنّ مشكلة الإنسان أنه لا ينسى بسرعة، لا ينسى بسهولة، وعلى الأرجح، فإنه لا ينسى أبداً.