فيزا

21 يوليو 2023
+ الخط -

كنت قد أقسمت في المرّة الأخيرة التي زرت فيها فرنسا، أي منذ أكثر من خمس سنوات، بعد انتظام في زيارتها لعشرين عاماً وفق موعد سنوي، أن لا أعود إليها أبداً إلا إذا تغيّرت ظروف التأشيرة أو حتى أُلغيت. وعدت نفسي بذلك، مُضحية بمتعة لقاء أصدقاء رائعين تركتهم خلفي على مضض، هم حصيلة إقامتي لعشر سنوات متواصلة هناك، درست وعملت خلالها وكوّنت تجربة ومهنة مكنتاني من العودة إلى وطني الذي كان قد أنهى على زغل حربه الأهلية.

أيامي الباريسية تلك كانت من أجمل أيام حياتي. أذكرها بكثير من الامتنان. فقد أعطتني باريس ما لم أستطع أخذه من بيروت الحرب الأهلية التي هربت منها، العاصمة النافرة من أهلها يومذاك. القاسية والمتملقة دائماً، والتي لا تلين إلا أمام الأغنياء والقادرين.

أما باريس؟ فقد بادلتني بعدل ما كنت أبذله من جهد. فأغنت أيامي بالأفكار والأصدقاء والثقافة والفن، وروت عطشي للمعرفة بمكتباتها ودور السينما فيها والمسارح ونقاشات المقاهي، لا بل إنها أغنت ذوقي بالطعام والملابس، والأهم معرفتي بالنظام العام، أنا الهاربة يومها من بلاد تعمها الفوضى.

لذا، أحببتها هي ولم أحبّ بيروت. ومع ذلك عدت إلى الأخيرة، فهي، وليس باريس، بيتي وبلدي. ولو أنّ هذا الاستنتاج الأخير بحاجة إلى نقاش في معنى الوطن وما الذي يصنعه فعلياً.

لذا كنت أمتعض عندما كانت القنصلية الفرنسية هنا في بيروت لا تعطيني أكثر من عام كتأشيرة دخول، فأجدني مضطرة لتكرار مسعاي كلّ عام، بدلاً من تأشيرة طويلة الأمد بناء على معرفتها بملفي و"حسن سلوكي". وكنت أحسّ بالظلم حين كنت أرى أشخاصاً لم يقيموا هناك، ولم يدفعوا ضرائبهم فيها، ولم يحبّوا المدينة أصلاً يحوزون على تأشيرات من خمس سنوات أو أكثر.

فوجئت بوفرة ما كانت القنصلية تطلبه من وثائق من أجل التأشيرة، على طريقة "اشتغل وعطّل تيقولولك بطّل"

كان ذلك ساذجاً أيضاً. كأنّ حبّ المكان وحسن السلوك خلال الإقامة هو المقياس لإعطاء تأشيرة طويلة! هذا أيضاً بحاجة إلى نقاش.

لكن طلبات القنصلية صارت تتعاظم سنة بعد سنة طوال العقدين السابقين، وأخذت لائحة متطلباتها تزداد طولا. أخذت تطلب وثائق من كلّ صنف ولون، ومن دون أي تبرير، مثل إخراج قيد عائلي مترجم ومصدّق! ما دخل عائلتي بالفيزا؟ لم أفهم. بالطبع إضافة لسعر التأشيرة الذي كان يزداد من سنة لأخرى. ثم تفاقم الأمر أكثر، فأوكلت القنصلية، شأنها شأن الكثير من السفارات الأجنبية، شركة محلية للقيام بدور الوسيط (أو الصمّام؟) بينها وبين طالبي التأشيرة؟

لماذا فعلت؟ ليست لديّ سوى تخمينات: ربّما تخفيفاً من موظفي القنصلية الفرنسيين الذين يتقاضون عادة بدل إقامة مرتفعاً بعيداً عن بلادهم، أو ربّما لأنّ ثمة من رأى أنّ "المحليين" أقدر على مواجهة "المحليين" من طالبي التأشيرة، أو ربّما على تحمّل مسؤولية.. المخالفات! لا أدري.

المهم، لم يعد باستطاعتك، كما كان سابقاً، أن تتناقش مع موظف القنصلية الفرنسي الذي يفهم قوانين بلاده، وبالتالي يعرف أن يكون مرناً حيث يجب، واستُعيض عنه بشركة خاصة، يعمل فيها لبنانيون، فزيدت أجورهم وأجر الشركة الوسيطة على ثمن التأشيرة المرتفع أصلاً.

اتخذت قراراً بالامتناع عن طلب الفيزا الفرنسية أو الأوروبية المتعالية بشكل وقح ومغرور، إلا إن كان في ذلك ضرورة لا بد منها

ثم قسّمت الشركة خدماتها وفقاً للسعر: فهناك سعر لملء الاستمارة، وآخر للفيزا السريعة، وثالث لفيزا الشخصيات الهامة مع دليفري.. وهكذا دواليك.

ثم ازدادت الصفوف طولاً أمام مكاتب الشركة، لا شيء يقي الجماهير الراغبة بالفيزا من شمس الصيف اللاهب، أو مطر الشتاء، ولا فرق بين سيدة حامل أو عجوز وشاب فتي. وبالطبع لم يناقش أحد هذه الخطوة في تلزيم الفيزا للشركة أو يحتج عليها.

وصادف أنّ صديقاً صحافياً ألحّ عليّ للمجيء إلى فرنسا للمشاركة في مناسبة إعلامية كانت مؤسسته تقيمها. كان ذلك قبل قراري. ولكني فوجئت بوفرة ما كانت القنصلية تطلبه من وثائق من أجل التأشيرة، على طريقة "اشتغل وعطّل تيقولولك بطّل". وعندما وجدت أنّ الأمر أصبح مزعجاً وعلى حافة الإهانة، أبلغته بأنّي لن آتي، وشرحت له أسبابي، فذُهل.

أما لماذا ذُهل؟ فكما قال لي إنه، وبكلّ بساطة حين يأتي إلى لبنان، وعادة ما يصل فجأة كونه مراسلاً صحافياً حربياً، لا يطلب فيزا من السفارة أو القنصلية اللبنانية في فرنسا. هو، كما قال، يحجز تذكرته ويحمل حقيبته الصغيرة على ظهره، ويصل إلى مطار بيروت ببساطة.

ثمّ؟ بكلّ بساطة أيضاً، يبرز جواز سفره الفرنسي، فيقوم موظف الأمن العام عندنا بختم فيزا دخول عليه، ويتقاضى منه مبلغاً وقدره أربعون ألف ليرة لبنانية، أي ما كان يعادل يومها سبعة وعشرين دولاراً أميركياً أو خمسة وعشرين يورو فقط لا غير، مقابل مائة وستين يورو ثمن تأشيرة اللبناني إلى فرنسا.

في القوانين الدولية، هناك مبدأ اسمه "المعاملة بالمثل". لكن هذا بين الدول التي تحترم نفسها

أهذا كلّ شيء؟ نعم. يقولها وقد احمّرت أذناه متضاحكاً وقد ارتبك من الحرج، كون علاقتنا كزميلين لبنانية وفرنسي غير متوازنة بهذا الشكل المدهش!

كان ذلك منذ خمس سنوات أو أكثر بقليل. لذا، اتخذت قراراً بالامتناع عن طلب الفيزا الفرنسية أو الأوروبية المتعالية بشكل وقح ومغرور، إلا إن كان في ذلك ضرورة لا بد منها.

فإن كان الغرض من التأشيرة السياحة، أين المتعة في أن تجتاز كلّ تلك العقبات الأشبه بالإذلال، وأن تضطر للتعاطي مع كلّ هذا التعالي السخيف من أجل بضعة أيام، منفقاً أموالك في بلاد تكاد تسدّ أنفها وهي تطبع لك ختم الفيزا؟ بلاد "تربحنا جميلاً"، بأنها تسمح لنا بأن نسيح في ديارها؟ كأنّ مجرّد السماح لنا بذلك هو امتياز ما بعده امتياز؟

بقي موضوع الأصدقاء هناك، فاقترحت عليهم أن نلتقي سنوياً على أراض جديدة، نكتشف فيها بلاداً أخرى خارج دوائر السياحة التقليدية، والأهمّ بالنسبة لي، أنها لا تطلب مني كلبنانية فيزا، أو على الأقل تعاملني بالمثل. وكما توقعت وجدوا الاقتراح مفيداً ومنصفاً فتضامنوا معي طوال السنوات الخمس الماضية، فالتقينا تارة في لبنان وتارة في إسطنبول، والأرجح السنة المقبلة في عُمان أو فيتنام.

الاحترام بين الدول، والتعامل الندّي، لا يأتي من التزام ميكانيكي بالقوانين الدولية، بل من قوّتك في فرض احترامك على الأقوياء

في القوانين الدولية، هناك مبدأ اسمه "المعاملة بالمثل". هذا بين الدول التي تحترم نفسها. وهو يقضي، كما تسميته، بتعاطي الدول مع مواطني الدول الأخرى كما تتعاطى هذه الأخيرة مع مواطني الأولى. أي بالعربي الصريح "كما تراني يا جميل آراك".

لكن هناك قانوناً آخر غير معلن اسمه "ميزان القوى"، هو الذي يسود فعلياً في عالمنا. فالاحترام بين الدول، والتعامل الندّي، لا يأتي من التزام ميكانيكي بالقوانين الدولية، بل من قوّتك في فرض احترامك على الأقوياء، وبالتالي إجبارهم على الالتزام بالقوانين والمعاملة بالمثل. فإن لم تكن كذلك، يكون حالك كحالي وحال الصديق الفرنسي، أو حال لبنان وفرنسا، لبنان وأميركا، لبنان والإمارات، لبنان وبريطانيا، لبنان والعالم باختصار.

لكن للتعزية، لبنان ليس وحده "المستوطى حيطه" من قبل دول تدّعي صداقته. فهذه حال بلدان كثيرة ليست بالضرورة ضعيفة وركيكة، يكفي أن تكون أقلّ قوة من غيرها فتخضع. أليس هذا حال فرنسا بعلاقتها مع أميركا مثلا؟

هذا "طبيعي" في شريعة الغاب الدولية.

ضحى شمس
ضحى شمس
كاتبة وصحافية لبنانية.

مدونات أخرى