بيئة حاضنة مقابل بيئة حاضنة؟
يتردّد منذ فترة طويلة مصطلح "البيئة الحاضنة للمقاومة"، في إشارةٍ إلى مؤيّدي مقاومة العدو الإسرائيلي من أبناء الشعب اللبناني.
لم أحبّ يوماً هذا التعبير. فهو يستبطن أنّ مقاومة العدو هي مجرّد خيار لطائفةٍ من اللبنانيين أولاً، وأنّ تبنيها، ثانياً، وبغضِّ النظر عن القوانين اللبنانية التي تنصّ صراحةً على اعتبار إسرائيل عدوّاً، مجرّد موقف حرّ تكفله، وتكفل عكسه، الديمقراطية وحرية التعبير!
بغضِّ النظر عن تفسيري، ما هو عملياً تعريف البيئة الحاضنة؟
ككلِّ المصطلحات في لبنان، فإنّ لكلِّ واحدٍ منها تشفيراً أيديولوجياً/طائفياً. فمن يستخدم هذا التعبير في الداخل اللبناني، ولدى العدو أيضاً، يريد الإشارة إلى الطائفة الشيعية حصراً، على الرغم من أنّ أنصار المقاومة، إن كانت إسلامية أو يسارية أو وطنية، لا يقتصر وجودهم مطلقاً، لا على هذه الطائفة ولا على غيرها. تماماً كالخيانة والعمالة. وما زال اللبنانيون يتذكرون أنّ بعض كبار العملاء أيام الاحتلال الإسرائيلي للجنوب قبل تحرير العام ألفين كانوا من الشيعة والموارنة. فالخيانة لا دين لها ولا طائفة، كما أثبتَ جيش لحد المُتحالف مع إسرائيل أيامها، وأثبتت عمليات اعتقال متكرّرة للعملاء بعد ذلك.
لكن إسرائيل أخذت، ومنذ بداية العدوان، تستخدم تعريفاً موسّعاً للبيئة الحاضنة. هكذا، اعتبرت أنّ كلّ من يؤوي النازحين اللبنانيين من مناطق قصفها الاحتلال، إن كان البقاع أو الجنوب أو الضاحية الجنوبية لبيروت، خصوصاً في مناطق مختلطة مع الطوائف الأخرى، متهم بتعاونه مع البيئة الحاضنة للمقاومة، وبالتالي مع المقاومة شخصياً. وإن عقوبتهم، على الرغم من صفتهم المدنية، وعلى الرغم من أنّهم ليسوا من البيئة الحاضنة مباشرة، هي ببساطة القتل العمد. أي الاستهداف بالقصف الصاروخي الثقيل والمحرّم دولياً، والمتجوّلة مصادره بين بحرنا وسمائنا المستباحين، صباح مساء، بأسلحةٍ وهبها له شريكه الأميركي.
أنصار المقاومة، إن كانت إسلامية أو يسارية أو وطنية، لا يقتصر وجودهم مطلقاً لا على هذه الطائفة أو تلك
هذا الشريك نفسه الذي منع، ويمنع تاريخياً، الجيش اللبناني الشرعي من امتلاك أيّ سلاحٍ، حتى دفاعي، يعينه على مقاومة اعتداءات إسرائيل وهيمنتها الجوية، وبالتالي حماية المدنيين اللبنانيين وأراضي البلاد. وأصلاً، هذا ما برّر قيام المقاومة الشعبية اللبنانية بكلّ أشكالها تاريخياً.
لكن، عدا بعض النشاز هنا وهناك الذي ضخمته وسائل إعلامية مناوئة للمقاومة، وعلى الرغم من قصفها مناطق سكنية متنوّعة استقبلت النازحين، خاب أمل إسرائيل. فقد فشلت في إشعال نار الفتنة الطائفية التي كانت تراهن عليها. هكذا، أبدى اللبنانيون، ومنذ بداية التهجير القسري، ترحيباً حاراً بإخوتهم النازحين، إلى أي طائفة انتموا، وأكاد أقول خاصّة في مناطق اشتهرت بميلها لـ"النقاء الطائفي".
كان الأمر منعشاً للسمع والبصر. فقد بدأت اللهجات المناطقية المتنوّعة تختلط على كامل خريطة البلاد، في صورةٍ عكست ما يجب أن تكون عليه صورة الأوطان. وقد تنبهت إلى ذلك يوماً في طرابلس، ويوماً آخر في قريتي التي بُتَّ تسمع فيها خليطاً من لهجات مناطق لم تعتد زيارتها.
هكذا، استوقَفْتُ في منطقة الأشرفية المفروزة مسيحياً منذ الحرب الأهلية، والتي قصدتُ أحد أحيائها للمساعدة في مطبخٍ افتتحه صديق لإطعام النازحين، أحد المارة، وكنت قد ضعت قليلاً، وسألته عن العنوان الذي معي. ابتسم الرجل وأجابني، لمفاجأتي، بلهجةٍ جنوبية "قح"، وقعت في أذني كنغمةٍ صائبة في سيمفونية نشاز طائفي، كنّا وللأسف، قد "اعتدنا" عليها لدرجة عدم توقّع سماع تلك اللهجة في هذا المكان.
فشلت إسرائيل في إشعال نار الفتنة الطائفية التي كانت تراهن عليها
ها هي الأشرفية والطريق الجديدة والشوف وزغرتا وعكار وجبيل والبترون ودير الأحمر... كلّها تصبح بيئة حاضنة للبيئة الحاضنة، حسب التعريف الإسرائيلي.
هذا التعريف الخبيث والخطر، والذي زاد تصريح وزيرة خارجية ألمانيا أخيراً أنالينا بيربوك، المُحلّل قصفَ المدنيين، من خطورته في حال اعتُمِد سابقةً في الحروب المستقبلية.
وسألت نفسي: ما رأي الوزيرة الذكية، التي استخدمت حكومتها بالأمس بارجة تابعة لفريقها المشارك في قوات "يونيفيل" لاعتراض مسيّرة لبنانية أطلقتها المقاومة باتجاه العدو الذي تخوض معه معركة شرسة؟ ماذا لو استخدمنا التعريف الإسرائيلي الموسّع للبيئة الحاضنة، لكن بالاتجاه المعاكس، وبقليلٍ من التأمّل لأداء الغرب الجماعي خلال السنة الفائتة وحتى اليوم، إن كان في لبنان أو في فلسطين؟
ببداهة، ستصبح الولايات المتحدة الأميركية بشقها الصهيوني، وغالبية دول أوروبا المتواطئة مع حرب إسرائيل، هي أيضاً بهذا المعنى، بيئة حاضنة! مع فارق أخلاقي كبير، هي أنّها حاضنة لمجرمي حرب، تدعمهم بالقول والفعل والسلاح والدبلوماسية.
اليوم، تبدو إسرائيل أكثر من أيِّ يومٍ مضى قاعدة عسكرية متقدّمة للغرب الجماعي. تجثم بثقل كيان لا أخلاق له، ولا احترام لأيّ قانون دولي أو اعتبار إنساني. تشجّعها "بيئتها الحاضنة" على المضي في توحشها، بالامتناع، فضلاً عن دعمها بالسلاح والخبرات، عن معاقبتها بالمطلق، ولو كان الثمن حياة مواطنيها، كما يحصل لقوات يونيفيل.
بدأت اللهجات المناطقية المتنوّعة تختلط في لبنان، في صورةٍ عكست ما يجب أن تكون عليه صورة الأوطان
بالمقابل، فإنّ الالتزام بالقوانين الدولية خلال الحروب، والتي كانت النيّة من اشتراعها الحفاظ على إنسانيّتنا، تكاد تكون نقطة ضعف في أداء المقاومة أمام عدوٍ مضطرب نفسياً ومتوحّش.
ففي عالم ما زال يتفرّج منذ أكثر من عامٍ على إبادةٍ موصوفةٍ في غزّة والضفة وفلسطين عموماً، إضافة لما بدأ يفعله في لبنان، خاصّة منذ بدء الاغتيالات التي تعامل معها العالم "الحر" كما لو كانت سلوكاً مشروعاً، مروراً بمجزرة أجهزة النداء، فقصف المدنيين بحجّة أنّهم البيئة الحاضنة للمقاومة، ثم تهجيرهم واستهدافهم حتى على الطرقات، وصولاً إلى قتل أفراد الهيئات الصحية وقوات الطوارئ الدولية، كل ذلك يجعل من التفكير في استهداف بيئة العدو الحاضنة، بما هي على الأقل مستوطنون مسلحون، وعلى الأكثر داعمون دوليون، هدفاً قد يعتبره المكلومون أكثر من مشروع. وهذا خطر جداً.
منذ بدء العدوان على لبنان، يتصل أصدقاء أوروبيون وأميركيون، خصوصاً من الدول التي تدعم إسرائيل بشراسة، للاطمئنان علينا. يقولون إنّ قلوبهم معنا ويسألون إن كان بإمكانهم تقديم المساعدة بأيّ شكلٍ كان.
صحيح أنّنا بحاجة لأيّة مساعدة وأنّهم مشكورون على ذلك، لكن ما نحتاجه فعلياً، هو تأثيرهم إيجاباً في رسم سياسات حكوماتهم، لجهة ردع الفاشيين من حكّامهم عن تحويلهم وتحويل بلادهم إلى مجرّد حاضنة للوحش.
إنّ انفلات هذا التعريف للبيئة الحاضنة قد يقود إلى أعمال انتقاميّة عشوائية في ردّة فعل تعبّر عن اليأس من العدالة الدولية. عدالة تبدو اليوم أكثر من أيّ وقتٍ مضى معطّلة وعاجزة.
إنّ مجرّد التفكير بذلك يخيفني. يا إلهي، كم يبدو مستقبل هذا الكوكب مظلماً!