طقسٌ خريفيٌّ معتدل
ها هو طائر الشؤم يحلّق فوق بيروت وضاحيتها المُدمّرة. لا يكفّ عن الزنّ فوق رؤوسنا، وفي آذاننا آناء الليل وأطراف النهار. ما إن يبتعد قليلاً، حتى تسمع أصوات القصف القريب الذي يتساقط على الضّاحية الجنوبية لبيروت: مرّة، اثنتين، ثلاثاً، أربعاً، خمساً، ستاً، سبعاً.. أصواتٌ متنوّعةُ الدوي: منها ما يشبه اللبيد، أي بصوتٍ مخنوق، ومنها الصاروخ الصاخب الذي يمزّق الهواء بسرعته. عادةً، يأتي هذا الأخير، إمّا من جهةِ البحر أي من البوارج العسكرية، أو من السماء تقذفه المُسيّرات المسلّحة أو طائرات حربيّة.
وأنت، في حيّك المُلاصق لحدودِ الضاحية، تحاول تخمين مكان الضربة وفقاً لقربِ الصوت أو بعده بانتظار خبرٍ عاجلٍ يذلّ الشاشات: هل هي منطقة الغبيري أم الشياح؟ أو ربّما حارة حريك؟ بئر العبد؟ لا.. هذا دوي بعيد. الأرجح أنّهم قصفوا المريجة أو الحدث أو السان تيريز.
ما إن يتوقّف القصف قليلاً، حتى يعتلي المراسلون هواءَ شاشاتِهم بخوذِهم العسكريّةِ التي باتتْ لا تحمي أحداً: إحداثيات القصف، وأين تمركز، وكم دمّر، وهل اغتال أحداً أو أنّ الأمر، بعد دمارِ الضّاحية الرهيب، مجرّد انتقامٍ من الصمود على الجبهة، والذي يكاد، لولا أنّنا نعرف أهل المقاومة، لا يُصدّق.
باتَ الأمر واضحاً: يقصفون الضاحية في كلِّ مرّةٍ يقوم رجال المقاومة بإيلامهم في الميدان، وجهاً لوجه. العدو الجبان بطائراته المتطوّرة التي لا تكفّ الولايات المتحدة الأميركيّة عن إرسالها للوحش، والتي تستفيض وسائل الإعلام، الأجنبية خاصّة، بتعدادِ مزاياها، كأنّ ما يحدث هو مجرّد إعلانٍ يوميٍّ في سوقِ تجارةِ الأسلحة.
بات الأمر واضحاً: يقصفون الضاحية في كلِّ مرّةٍ يقوم رجال المقاومة بإيلامهم في الميدان، وجهاً لوجه
أُحاول تناسي كلّ هذا الزنّ في مطبخي، أقرقعُ بالطناجر مُقنعةً نفسي بأنّي أطبخ فقط، أو أقوم بجلي الصحون لأموّه الصوت المُزعج. أفتح صنبور المياه القوي، ضجيج المياه وجلي الصحون، وخاصّة الملاعق، تطغى قليلاً وتسمح لي بالتفكير في شيءٍ آخر. لكن ما إن أكفّ، حتى يعود الصوت: ليس عالياً كثيراً، فقط بما يكفي لإرهاقِ أذنيك المتأهبتين بسببه طوال الوقت. إرهاقٌ لدرجة أنّه حتى حين يكفّ، يظلّ يطنّ داخلهما.
أهربُ من الصوتِ إلى الغرفِ الداخليّةِ، أُغلق الأبواب، لكن لا مفرّ. أسمعُ فجأةً صوتَ موتور ضخِّ المياه إلى الطوابق العليا. يبدو أنّ أحد الجيران اشترى "سيترن" (صهريجاً) من المياه. الضجيجُ شديدُ الإزعاج عادة، أمّا اليوم؟ فيكاد يكون جميلًا. لكنّه هو الآخر يصمت في النهاية، والزنّ لا يتوقّف.
أقف هنا على شرفتي، أنظر إلى السماء متفحّصةً إن كان مصدر الصوت ظاهراً. صوتُ قصفٍ بعيد يدوي، فتطيرُ رفوفٌ من العصافير مفزوعةً من الشجرة الضخمة مقابل منزلي، كسربٍ من النازحين، ثم تحطّ مثلهم في أقرب مكانٍ تظنه آمناً إلى أن يتوقف القصف، ثم تعود، إلى الشجرة، كما يأملون.
أفكّر: كيف تحوّل هذا الحلم البشري بالطيران إلى مثل هذا الكابوس الشرير؟ يا عباس بن فرناس انظر ما حصل لحلمك. كيف تحوّل من فكرةٍ خياليّةٍ مجنونةٍ وُلدت من الشعر والعلم، فكرة قفزت بالبشرية إلى كونٍ جديد يتلاقى فيه البشر وتتلاقح ثقافاتهم وحضاراتهم، إلى وسيلةٍ رهيبةٍ للجريمة، للإبادة.
كيف تحوّلت الاكتشافات الطبيّة الرائعة التي أنقذت البشريّة من الفناء إلى وسائل حرب وإبادةٍ بيولوجية؟
كيف ينقلب كلّ ما يبتدعه عقلٌ بشريٌّ جميلٌ إلى هذا المآل المؤسف؟ كيف تحوّلت الاكتشافات الطبيّة الرائعة التي أنقذت البشريّة من الفناء إلى وسائل حربٍ وإبادةٍ بيولوجيّةٍ؟ واكتشاف الذرة، ماذا عنه؟ وآخر مستجدات الذكاء الاصطناعي. ما هذه الشهوة الشريرة للقوة والتسيّد، والتي لا تشبع؟
أفكّر في أهل غزّة وما ذاقوه من صنوفِ التعذيب في هذا العام الأطول منذ قرنٍ، وهم في خيمهم، ما تبقّى من بيوتهم، من شوارعهم، من أحيائهم المكشوفة للسماء التي تجتاحها كلّ أنواع المُسيّرات والطائرات، وهم باقون في تلك الأرض التي سمّمتها إسرائيل حتّى باتتْ غير صالحة للعيش، غابة من الأنقاض.
بعد مراثي الشهداء، مرثيات البيوت المتحوّلة إلى أنقاضٍ تنتشرُ على وسائل التواصل. تصلني من خالتي صور لأنقاضِ بيتها الجميل. بيت كالجنة بالنسبة لها، بنته بأموالِ عائلتها التي اغتربت فترة طويلة. بيت على الطريقة الأميركية: طابقان وحديقة مفروشة بالعشب الأخضر تتوسّطها نافورة تُحيط بها أشجار الورود. بيتها ملاصق لبيتِ ابنة خالتي الأخرى، وحيّ أهل أمي، كلّه أنقاض.
تتوالى القصص عبر وسائل التواصل: صور أو فيديوهات التقطها الناس لما آلت إليه حال بيوتهم بالقصفِ الإسرائيلي المُتعمّد للمباني السكنيّة، للمدنيين على طول الخريطة الصغيرة للوطن.
ما هذه الشهوة الشريرة للقوة والتسيّد، والتي لا تشبع؟
صورُ بيوت القرى هي الأكثر إيلاماً، ببساطتها أو فخامتها المُدّعاة أو الحقيقيّة. يضيف أصحابها المنكوبون موسيقى حزينة ترافق عدسة الكاميرا بتجوالها بين الغرف التي صارت آيلة إلى السقوط، والشرفات المخلّعة والستائر الممزّقة التي لم تعدْ تستر شيئاً. ينشرونها أحياناً برفقة صورٍ أخرى للمقارنة، صور قديمة، التقطوها لبيوتهم في مناسبةٍ ما مُفرحة، مجتمعين فيها في صبحيّة ما حول ركوةِ قهوة، لعرس ربّما، مأدبة أو عيد، لكي نرى الفرق، ولنفهم درجة حزنهم. نفهم ونحزن.
بيتي الذي كنت أسأم فيه وحدي، تحوّل إلى بيتٍ حقيقيٍّ. سقف، ولو مؤقّتاً، لضيوفٍ من عائلاتِ الأصدقاء والأقارب ومعارفهم. آنسوني بضع ليالٍ قبل أن يختاروا مسكناً بديلاً، بانتظار أن تنتهي حرب المجانين علينا. صرت أحبّه أكثر.
يتواصل صوتُ المُسيّرات المُعادية لليوم العاشر على التوالي، لكن، لدهشتي، تنبّهت إلى أنّه لم يعدْ يُزعجني كثيراً، كما لو أنّني اعتدته!
ثم حسمت أمري: لن أتوتّر. هكذا، أقفلت هاتفي في وجه العاجل. أطفأت شاشة التلفزيون، وتذكّرت الحكمة التي تعلمتها من تجربتي في الحربِ الأهليّة، والتي تقول: إن سمعت صوت القذيفة، فهذا يعني أنّها لم تسقط فوق رأسك. أمّا إن لم تسمعها؟ فما الفرق.. لن تسمع بعدها شيئاً. لذا لن أفكّر.
أفتح الراديو على قناة الأغاني، فأقع على نشرةِ الطقس. تقول المذيعة إنّ طقساً خريفياً معتدلاً يسيطر على لبنان ومنطقة حوض البحر الأبيض المتوسط. صحيح.